23 ديسمبر، 2024 1:33 ص

بنية التشكيل الشعري في مجموعة شيءٌ.. وينطق الماء للشاعرة شيماء العلي

بنية التشكيل الشعري في مجموعة شيءٌ.. وينطق الماء للشاعرة شيماء العلي

منذ المهادات الأولى لنظريّة الأجناس الأدبيّة التي وردت في كتاب فنّ الشعر للفيلسوف الإغريقي (أرسطو)، شهدت بنية الشكل للنصوص الأدبيّة تحوّلات بنيويّة كبيرة، فالذات المبدعة تسأم السائد والمألوف في رحلتها نحو الابتكار والتجديد، وهذا ما ذهبت إليه الفيلسوفة الأمريكيّة (سوزان لانجر) من أنّ الشكل الفنّي لن يحقّق مآلاته التجديديّة إلّا إذا استمال شكلًا مغايرًا يوسّع من معارفنا ويمتدّ بها إلى ما وراء خبرتنا اليوميّة، والشعر بوصفه جنسًا إبداعيًّا شهد تحوّلات كبيرة مبنى ومعنى سواء في بنيته الإغريقيّة أو العربيّة منذ الصيرورة الأولى وليومنا هذا.
لم تخل مجموعة “شيءٌ.. وينطق الماء” للشاعرة شيماء العلي من المغايرة الشعريّة في بنيتها التشكيليّة، إذ نلحظ توظيفها الثنائيّات البنيويّة والحذف والإيجاز وتحوّلات الصورة الشعريّة من جهة والتداخل ما بين الأشكال الشعريّة من جهة أخرى، فمنذ نصوصها الموازية ومع عتبتها الرئيسة المتمثّلة بالغلاف الخارجيّ نلحظ أنّ عنوان المجموعة قد اعتمد على المخاتلة، ممّا يجعل الأسئلة تساور القارئ مع زمن القراءة الأوّل، ما المحذوف من مفردة شيءٌ ؟ حروف من اسم الشاعرة أم غير ذلك، وثمّة قراءة ثانية، من الممكن أن تكون الشاعرة حذفت الملحق بالشيء وجعلت من الفراغات النصيّة شفرة يقع على القارئ فكّ مغاليقها في رحلة الغوص في متن المجموعة، ومما ينطق الماء؟، إنّ تعدديّة القراءة تفضي إلى التماهي الأرسطيّ حسب الطروحات الإغريقيّة أو إلى تفعيل سارديّة المتلقّي حسب منظّري التلقّي في مدرسة كونستانس الألمانيّة، وفي الحالين سيغرق المتلقّي في قراءات متنوّعة، ولم تكتف الشاعرة في عتبتها الرئيسة بشفرة العنوان، بل عمدت إلى توظيف فضاء بصريّ معادل للعنوان تمثّل بوساطة اللوحة التي خلقت تساؤلات جماليّة هي الأخرى، فإطار اللوحة الفارغ والوشاح الأحمر والخلفيّة السوداء قبالة قدح الماء والنبتة، شفرات داخليّة تشي بالصراع ما بين فلسفتي الوجود والفناء، حتى أنّ هاتين الفلسفتين شكّلتا البنية العميقة التي ترتبط بفلسفة الماء التي لم يعرف المتلقّي بنيتها الدلاليّة لحدّ الآن، ومع الإهداء نلحظ توهّج الصراع ما بين الماء بوصفه ثيمة الوجود حسب المرجعيّات القرآنيّة وبين الفناء الذي تلبّسته الشاعرة بوصفها الصوت المركزيّ للنصّ حينما تقول في الصفحة الخامسة “ولست الآن شيّا”، في حين رسمت العنوانات الداخليّة على شكل منظومة من البنى السطحيّة التي تحيل المتلقّي إلى البنية العميقة التي تمّ ذكرها سابقًا، ولو تابعنا بعضها مثل “شيءٌ .. وماء” و”مفترق” و”نيزك ما” و”صوم آخر” و”عيد ولكن” و”نصف وأنت” نلحظ الفراغات المبنيّة على الحذف، التساؤلات والاستدراك ممّا يجعلها بنية متآزرة مع النصوص الموازية السالفة.
ومع أوّل نصوص المجموعة “شيءٌ .. وماء” نلحظ في مهادها الاستهلاليّ أنّ للماء سرّ خفيّ أدّى إلى انطفاء النار، وفي البيت اللاحق نكتشف أنّ سرّ الماء هو نهر الشعر تارة وماء الطبيعة تارة أخرى، وسط هاتين الثنائيّتين تجتهد الشاعرة في صياغة بنية تشكيليّة مفارقة للسائد ذي الشفرة المباشرة، ولم تستنسخ الشاعرة تركيبها الشعريّ في القصيدة الثانية “مفترق”، إذ شهدت لغة الماء تحوّلًا مغايرًا في قراءة ثنائيّة الوجود والفناء تمثّلت بالمطر الذي قد يكون ثيمة للحياة والخصوبة حينًا وخوف الغرق حينًا أخرى، إذ تقول:
رذاذٌ يقود الغيم يا ويل دربه وأمطار حرف داعبتْ رشّة الودقْ
به شوق وردات الخريف إلى الندى هي الماء يرجوها ويخشى بها الغرقْ
في حين تحوّل الماء في قصيدة “سرقات متاحة” إلى دمٍ يعلق في العناقيد، ولم تمضِ الشاعرة في تشكيلها الشعريّ بالمغايرة الصوريّة لثيمة الماء فحسب؛ بل تلبّست نشوة الهدم والبناء مخيالها الشعريّ، ففي قصيدة “صلاة على سجّادة الشعراء” شهدت الصورة انزياحًا عن المعيار، إذ تقول في الصفحة السابعة عشرة:
الينزفون دماءً من محابرهم دم السوادات ثأر الله والفقرا
في البيت أعلاه عرّفت الشاعرة الفعل المضارع المختلف على تعريفه باحثة عن الأثر الجماليّ للمغايرة مما يجعل المعنى أكثر وقعًا في الذات الإنسانيّة، ليس هذا فحسب؛ بل تنوّعت الانزياحات في النصّ من الماء إلى الدم إلى الحبر، فالشعراء ينزفون الحبر في صياغة القصيدة التي تعيد ترميم الحياة، وما الحبر إلّا الدم المراق من أجسادهم المشغولة بتزيّن ما خرّبته الحروب، وهذا ما تجلّى في صورة مغايرة في ذات الصفحة حينما تقول:
هم رعشة الكأس في كـفٍّ يرخص ما في ذمّة الغيم منذ اسّاقطوا مطرا
نلحظ هنا التحوّل الجديد في بنية الصورة في ذات القصيدة، فبعد تحوّل الماء إلى دمٍ ثمّ إلى حبر في البيت السابق تحوّل إلى المطر رمز الديمومة والخصب والنماء، في تركيبة دلاليّة ترتبط مع البنية العميقة للمجموعة بالوجود والفناء في ديمومة مستمرّة من الصراعات.
ولم تكتفِ الشاعرة بتوظيف التحوّلات الصوريّة للماء بوصفها بنى تتعاضد مع البنية العميقة؛ بل عمدت إلى مغايرة جديدة تمثّلت بالمتكرّر النصيّ، والمتكرّر من جماليّاته تأكيد المعنى، ولكن حينما يصبح مناورة شعريّة في إنتاج معانٍ متعدّدة، هنا تُفعّل القصيدة سيرورة وعي القارئ النموذجيّ، وهذا ما بانت إشراقاته في العديد من النصوص، ففي قصيدة “لي أن أغيب” وردت مفردة “أشاء” في معانٍ مختلفة حقّقها السياق، فتارة تجسّد بالمشيئة وتارة بحروف من اسم الشاعرة وتارة أخرى بالغياب، أمّا في قصيدة “أيّها الشعر” تعدّدت معاني الشعر فتارة تشتكي الشاعرة للشعر بوصفها الصوت المركزيّ من الشرود والسهر وتارة أخرى تخاف على الشعر من البشر والشرر.
في حين شهدت بعض قصائد المجموعة تحوّلات شكليّة ما بين العمود والنثر في بنية جماليّة متآزرة محاولة كسر الرتابة الشكليّة مثلما نلحظ ذلك في قصيدة “شاعرة وليل” أو توظيف المحكيّ اليوميّ في بنية القصيدة في قصيدتي “قال شاعر” و”طاسة ماي”.
شيماء العلي من الشاعرات المولعات بالتجريب، فاللغة في عرفها تهيم بمن يجلّي عن جسدها بصمات صاغة الشعر، لذا كانت الأشكال المتنوّعة والتحوّلات الصوريّة والإيجازات والمتكرّر النصّي والتناصّات مع التاريخ والموروث والنصّ القرآنيّ مآلاتها التجريبيّة من جهة وإجابات جماليّة عن التساؤلات التي وردت في نصوص المجموعة الموازية من جهة أخرى.