المجتمع أحبط الحرب الأهلية بتآزره تاركا وراء ظهره الطروحات السياسية المحفزة بإتجاه التصعيد الطائفي
قرأنا في متون الكتب التي توثق لتاريخ السياسة والاجتماع، أن الاهداف والمرامي، النابعة من داخل وخارج المجتمع، لا تمر وتستحكم من صيرورته، الا بعد تمزيق الولاء الوطني المطلق، لدى الفرد، وإحلال الإنتماءات الفئوية النسبية، بدائل عنه، وهذا ما شهدناه بعد الوهن الذي أصاب السلطة في العراق، عقب 9 نيسان 2003، بتمزق إدارة الدولة العراقية، متوزعة بين طوائف وقوميات.. وأحزاب طائفية وقومية، لا محل للستراتيجية الوطنية، ضمن إيديولوجياتها.
تتعمق المشكلة، عندما تتخلى تلك الايديولوجيات عن خصوصيتها العراقية، متشرذمة تبع دول إقليمية، لديها خطط عمل نابعة من مصالحها الوطنية الصرف، في أن تعادي من يتقاطع معها وتتقارب مع تشاء، صابة حمم صرعها على الساحة العراقية، التي وضعها السياسيون المحليون، بخدمة تلك الدول التي تطرح نفسها راعية للولاءات الطائفية والقومية، في وقت ترعى فيه مصالحها، وتكرس صراعاتها، ضد غرمائها السياسيين في العالم، بإتخاذ العراق جبهة مواجهة، إنساق معها السياسيون إستجابة لمنافع شخصية بوأتهم مناصب، مرتبطة بالعمل لدول المحيط الايديولوجي المتصارع من حولنا؛ ما يضطرهم لمواصلة التأليب ضد نظراء مرجعياتهم الخارجية وتكريس البلد لحماية مصالحها؛ كي يدعموا مناصبهم.
تخبطات جهول
وبهذه الكيفية،إنبثق الصراع الطائفي، بين الشيعة والسنة، في العراق، بإعتبارهما أقوى كتلتين في بنية المجتمع العراقي، بعد تحييد الطرف الثالث في القوة، وهم الاكراد الذين حصروا قضيتهم في السعي لإعلان كردستان دولة مجاورة، بشكل أقصاهم عن الصراع المتداخل الخنادق، الى وضوح الحدود الحامية لمصالح الدولة المرتقبة، وراء جبال كردستان، ذات الأبعاد الاقتصادية والجغرافية المعزولة، الصالحة لتكون وطنا الميعاد والمفأ الآمن.
ولهذا شب الاحتقان الطائفي، متركزا في بغداد ومحافظات الانبار والموصل وديالى،على شفى حافة الحرب الاهلية، لولا العناية الإلهية، في ظل الإهمال الحكومي للأمن، بل والتأليب الرسمي بإتجاه الحرب الأهلية، في إجراءات ربما مقصودة او ناتجة عن تخبطات جهول.
بالنتيجة وقانا الله شر الحرب الأهلية، بتآزر المجتمع، وإلتفافه حول تبادل المحبة بين مكوناته، تاركا وراء ظهره، الطروحات السياسية المحفزة بإتجاه التصعيد بين الشيعة والسنة، الى أن جاءت “داعش” من وراء الحدود، لتحتل الموصل والانبار وصلاح الدين، مدعومة بحاضنة شعبية في اول الامر؛ بإنتظار إنتشال المجتمع من الفساد الحكومي، ثم تنافت تلك المحافظات مع “داعش” عند إنكشاف توجهاتها السلفية التي تغتصب الراهن لصالح ماض غير قابل للتجدد بالصيغ التي يريدونها.
نيابة عالمية
تقوضت “داعش” ولم يعد وجودها في العراق سوى قضية وقت، بمعنى أنها سائرة الى زوال، يمحو معه آثار الإرهاب العالمي، وهذا جزء من تخبطات الشخصية العراقية، التي حاربت إيران على مدى ثماني سنوات نيابة عن دول لها مصالح في تفنيد مشروع الثورة الايرانية، التي جاء بها الخميني، عام 1977، والآن نحارب “داعش” نيابة عن العالم؛ بغية القضاء عليه؛ كي يبدأ مشروع عولمة جديد لتنظيم العالم.
في حين بالامكان ان نكون جزءا من المنظومة العالمية لمحاربة “داعش” وليس المقاتل الوحيد، وعلى أرضنا؛ لأن القضاء على الارهاب، متمثلا بـ “داعش” كأحدث تمظهراته، التي بدأت بالقاعدة، وورثتها “داعش”.
هزة “داعش” كإحتلال، وكحرب إستنفدت دماء الشباب وميزانية الدولة، شكلت مخاضا عسيرا، لا يقل عن تغيير حكم صدام حسين، بديمقراطية نظرية تحولت الى فساد إجرائيا.
ما يعني ان إنتهاء العراق من ملف “داعش” بمساعدة دولية مشهودة، يخلق إستحقاقات توجب إجتثاث منظومات إشتغال، وإيجاد بدائل عملية تنتشله من التحرزات الطائفية العالقة، منذ الاحتقان الطائفي، الذي إشتعل على حدود الحرب الاهلية، من دون أن يلج ذاك النطاق، الذي لن يبقي ولن يذر.
بهذا ستكتمل الافادة من هزيمة “داعش” بإعادة النظر في الاسباب التي جعلت العراق ساحة لإستقطاب الصراع العالمي، ومنها الخلافات الطائفية، التي لن يبقى لها محل في الحوار، عندما تبدأ عمليات البناء العمراني والاجتماعي، لمرحلة ما بعد “داعش” بإعتباره داهم الجميع، ولم يكافئ سنيا او يعاقب شيعيا، إنما كل عراقي الهوى، كان هدفا مباحا لـ “داعش”.
ورق يابس
بعد زوال غمة “داعش” لن يبق محل لمناقشة شؤون العمل السياسي من منظور طائفي، إنما هي “خضة” عنيفة، اسقطت الورق اليابس من شجرة العراق؛ كي يستعيد خضرته الوارفة، بالمعنى العملي للوطنية، وليس الشعارات المناوئة للواقع.
آملا أن يتعاون المجتمع الدولي مع الهمم الاصلاحية الجادة، في العراق، بعد “داعش” لإعادة بناء حضارته.. إقتصاديا وإجتماعيا وعمرانيا، وهذا شأن قابل لإستقطاب الاستثمارات، بتخطيط حقيقي نزيه من الداخل، ودعم دولي جاد.
فالإستثمار هو العصا السحرية التي توقف التداعي الاقتصادي في العراق، وترتقي به، ولا أظن سعة إنتشار الخير وجدية العمل، تبقي مساحة للتفكير الطائفي في الصراع، بين شيعة وسنة، خاصة وان كردستان لم تدع شأنا عالقا بينها الحكومة المركزية، لمطواعية الطرفين في تحويل ما يتفق بشأنه، الى واقع ميداني، سواء بالمكوث إقليما فيدراليا، ام الإنفصال دولة كاملة العضوية في الامم المتحدة، دأبا على الإقتداء بجنوب السودان (لكن من دون الحرب التي تلت طرفي السودان في اما بعد إن شاء الله) ليحسم الصراع الشيعي السني بتوافق غير معلن، على العمل الجدي، لترميم الوطن والارتقاء به.
زعامة سنية
المحاصصة الراهنة.. برغم إعتراضي على المبدأ، مفضلا الإحتكام للكفاءة، وليس للتوزيعات “الأثنية – عقدة الأقليات” لكن د. سليم الجبوري.. رئيس مجلس النواب، تخطى إنتماءه السني، الذي أوصله للإستحقاق الدستوري، وفق المحاصصة التي شملت المكونين الرئيسين الآخرين.. رئاسة الجمهورية للكرد والوزراء للشيعة، ولحد هنا وتوقف الشعور السني لدى د. الجبوري؛ إذ أجده يمارس صلاحياته كعراقي بروح وطنية وليست فئوية، وقد نحج بذلك، الى حد إعتراض الجميع؛ لأنهم يريدونه سني التفكير، كي يطلبون منه المقايضة مع شيعية هذا وكردية ذاك؛ وبعمله وفق أداء وطني لا أثر لسنيته فيه؛ أحرج إنحيازاتهم الفئوية، فراحوا يفتعلون الأزمات ضده، وينجو منها لسلامة مواقفه وجديته ومواظبته وحسه السياسي الصافي، بدليل، تصرف ببديهة رفع العالم له القبعة لحظتها، عندما وجه له خالد العبيدي إتهامات، خلال الإستجواب الشهير، تخلى فورا عن رئاسة المجلس لنائبه، عملا بحكمة الامام علي.. عليه السلام، عندما حضر رجل يشكوه لعمر بن الخطاب.. رضوان الله عنه، إعترض حين قال له الفاروق: “هلا جلست جنب خصمك” فرد الامام: “بل قل لي: قم وأجلس جنب خصمك”.
تلك الأخلاق الرسالية، قدوتنا، التي أجد سليم الجبوري قد عمل بها، عندما إنسحب من رئاسة المجلس، لحظة توجه تهمة له، في إجراء لم تشهد مثله دول الشرق، وكان بإمكانه إلغاء الجلسة، وأظن سواه كان سيلغيها!
ألوان مجتزأة
أفلحت عراقية سليم الجبوري، المنبثقة عن إستحقاق سني، حصره في المرحلة الواصلة بين صندوق الاقتراع، وكرسي الرئاسة، في مجلس النواب، الذي إقتعده متقمصا وطنيته، بل متماهيا معها، نابذا الإنتماء السني، الذي لم يعمل به، الا عند الوقوف ماثلا بين يدي الرب، للصلاة.. حيث لا يراه سوى الملائكة الموكلين بالعبادة.
والتجاذات التي يشهدها مجلس النواب، بإستمرا، حتى باتت ظاهرة كما لو أنشئ لأجلها؛ نابعة من ميول لو لم يحد منها الجبوري؛ لتفجرت مغطية العملية السياسية بمفاصلها الثلاث.. رئاسة الجمهورية والسلطتين التشريعية والتنفيذية.
الرجل تراه شيعيا عندما تقتضي المناقشات إستحضار الوعي الشيعي في الوصول الى قرار، وكردي عندما يتعلق الامر بالكرد ومسيحي عندما يتعلق الامر بالمسيحيين وتركماني وصابئي، مستفيدا من هدوء شخصيته وإتزانه المرن، في إدراك طرق تفكير كل مكون كما لو كان منه، وبهذا يتحقق فيه المستوى المثالي لشخصية السياسي الذي نتمناه، وهو التفكير بعقلية العراق كطيف متكامل وليست الوانا مجتزأة.
يتضافر ذلك، مع إتزانه برغم التحولات الحادة، التي تشهدها السياسة العراقية.. سلبا وإيجابا؛ لأنه يتحرك بمهنية سياسية ملتزمة، جعلته الأقرب الى المكونات كافة، من شيعة ومسيحيين وكرد و… سواهم.