18 ديسمبر، 2024 4:14 م

في أعقاب الانتفاضة الشعبانية التي شهدها العراق بعد اقتحام القوات العراقية الكويت في 2 آب 1990، حيث التوتر الكبير والصدامات الشديدة بين قوات النظام وأبناء الشعب والفوضى التي عمت أرجاء البلاد وأقلقت العباد. لم تسلم مدينة عراقية من السطو الحكومي وأصبح الكثيرين ضحية القنابل الموجهة إلى المدنيين.

جدي لوالدتي المرحوم الحاج سيد عباس سيد شكور المعروف في مدينة كفري بـ (سيد عباس)، حيث كان بيت جدي في قضاء كفري الحبيبة ولهذا البيت نصيبه من تأزم الأوضاع هذا. فبتأريخ آذار 1991 قصف البيت بقذيفة مدفعية ثقيلة أطلقتها مقاتلي المعارضة الايرانية المعروفة باسم مجاهدي خلق والذين كانوا يعسكرون في المنطقة والذين كلفوا بكبت الانتفاضة في قاطع كفري وحواليه. القصف ألحق أضراراً ماديةً كبيرة وأدى إلى هدم جزء كبير من بيت جدي.

من أثر الصعق وهوله نتيجة سقوط هذه القذيفة المدفعية في البيت والتي دمّرت الطابق الثاني والذي سقط جزء من جداره وأصاب رأس جدي، ما أدت الإصابة إلى فقدانه لبصره في عينه اليمنى. نقل جدي إلى كركوك وأقام في بيتنا ومن ثم أجريت له عملية جراحية في العين والتي لم تنجح في إعادة النور إلى عينه هذه ليعيش ما تبقى من عمره بعين واحدة.

في تلك الفترة وتحديداً في يوم 20 آذار 1991 المصادف 4 رمضان تم سرقة بيتنا وأمام أعيننا من قبل أوغاد اقتحموا البيوت في المنطقة بتهديد السلاح مستغلين فراغ السلطة وغياب الأمن. كانت سيارة أبي من ضمن المسروقات ولم نعد نمتلك سيارة نتنقل بها. لم يكن لي بد وأنا أرافق جدي إلى الطبيب إلاّ أن أقوم بتأجير سيارة تكسي تقلنا إلى العيادة الطبيّة. أنا وجدي ننتظر أمام باب البيت لنؤجر سيارة أجرة لمراجعة طبيب العيون لغرض تداولي العين التي أجريت لها العملية. وقفنا أمام باب بيتنا منتظرين قدوم سيارة أجرة لتأخذنا إلى عيادة الطبيب.

خلال فترة وقوفنا وانتظارنا لسيارة أجرة كان الأصدقاء يمرون بسياراتهم من أمامنا ويلقون علينا السلام مع منبه السيارة. يأتي هذا ويلقي السلام بمنبه السيارة ويأتي ذاك كذلك يلقي السّلام ويمشي. تعجب جدي لعدم قيام أي واحد من الذين يلقون السلام علينا بمساعدتنا لا سيما وهم يشاهدون جدي الكبير والطاعن بالسن والمريض الذي يقف منتظراً سيارة أجرة يستقلها إلى الطبيب المعالج. الكل يلقي التحية ويمشي بسيارته مسرعاً، الأمر الذي جذب انتباه جدي رحمه الله وقال مقولته التي ترن في مسامعي حتى السّاعة وبعد مرور أكثر من 31 عاماً.

جدي المستغرب من الأمر تساءل وبشكل آني قائلاً: في أي مصرف تصرف هذه التحايا؟!

استغرب جدي الراحل من هذه التحايا الحارة التي لا تناسب أفعال أصحابها. يتساءل جدي عن فائدة هذه التحية الحارة من قبل الأصدقاء الذين لم يبادروا إلى مساعدتنا حتى بالسؤال شفهياً فيما إذا كنا بحاجة إلى مساعدة وهم يشاهدوننا واقفين على قارعة الطريق بعد أن سرقت سيارتنا ونهبت أموالنا وهذا الرجل الكهل والمصاب بعينه ينتظر سيارة أجرة لتنقله إلى الطبيب. ما أعرب عنه المرحوم جدي (سيد عباس) بكلمة كان بمثابة مقالات تكتب لتفسر الأمر وتقربه إلى الأذهان.

ما دفعني إلى استذكار الأمر وتذكيره هو استماعي إلى الحديث المعسل للمسؤولين وأصحاب المناصب والسيادة شاغلي المقاعد من الأفاضل، المتظاهرين بحب الشعب والمتحدثين عن تقديم الأفضل لهم والمتحدثين عن المبادئ والقيم العليا دون وجود شيء ملموس باليد. الكلام غير المقترن بالأفعال دفعني بأن أستذكر سائقي السيارات من الأصدقاء الذين القوا علينا التحايا الحارة غير المقرونة بإبداء المساعدة أو فعل ملموس.

أتساءل وكما تسأل جدي (سيد عباس) أين يصرف كل هذا الكلام الذي في نشرات الأخبار والساعات الاخبارية؟!. فمنذ أكثر من خمسة أشهر على إجراء الانتخابات النيابية والشعب بانتظار تشكيل الحكومة. نعقد الآمال على تأسيس حكومة وطنية تعمل من أجل الشعب ومن أجل أن تذهب عن الشعب ولو نزراً يسيراً من الأثقال والأعباء التي أثقلت كاهله. شبعنا ضحكاً على الذقون، وشبعنا استغفال. ففي أي المصارف تصرف يا ترى هذا الكم الهائل من الكلمات التي نسمعها يومياً؟.