19 ديسمبر، 2024 2:55 ص

بنت الهور.. وموعد مع القدر

بنت الهور.. وموعد مع القدر

كان لابد لها أن تستريح بعد عناء طويل، وهي تركض بلا عجز أو تعب، خلف مسؤول وعدها خيراً، تلك المسكينة لم تتخيل يوماً، أن الدنيا ستكشر عن أنيابها، لتصبح حكايتها واحدة من حكايات ألف ليلة وليلة، أم جاسم المرأة السومرية، التي ملأ وجهها المتعب سمرة الهور، وتحمل في مخيلتها قصص البردي، وطفولتها التي ودعتها.
 بعد أن بلغت الخامسة عشر من عمرها، وزواجها من إبن المدينة، الذي أختار أن تكون شريكة حياته، من المناطق الجنوبية، وتحديداً الأهوار، فلم تكن على موعد مع القدر، بل كان القدر يتربص بها، بعد أن أصبحت أماً لثلاثة صبيان وبنت واحدة، إستطاعت أم جاسم تربية ابنائها الأربعة، وهي تكد مع زوجها الموظف، صاحب الراتب البسيط، إذ كانت تخبز الخبز تارة، وتخيط الملابس لنساء المحلة تارة أخرى، مقابل ثمن زهيد، فهذه المرأة أنموذج للمثابرة وللأم الحنون..
  بسقوط الصنم إستبشرت خيراً، ولكن للأيام رأي آخر، عندما بدأت حكايتها، وكشفت لها ما كانت تخفيه، فبعد مرور عام على تغيير النظام، توفي زوجها وسندها، وشكلت صدمة بالنسبة لها ولأبنائها الأربعة، إلا أن أبنها جاسم بلغ عشرين عاماً، وكان مدركا أن دوره قد بدأ، ومنذ إنطفاء شمعة والده، قرر الإبن أن يجمع عائلته باجتماع خاص، ويعلن عن مسؤوليته في تحمل أعباء الأسرة، وترك مدرسته، وعمل من أجل جلب القوت والمعيشة لعائلته، ولكن محمد أخوه الأصغر، ترك المدرسة أيضاً وعملا سوية، وطلبا من أمهما المرأة المثابرة، على الجلوس في البيت وعدم الخروج، خوفاً عليها من نائبات الزمان..
 مرت السنون والإخوة يعملون معاً، وتزوج جاسم، وأصبح لديه طفلان، ومن بعده تزوج محمد، وأنجبت زوجته ولداً وأسماه عبد الله، تيمناً بإسم أبيه، وكانا هما المعيلان للبيت، ولكن للزمن فعله مرة أخرى، فبعد سقوط الموصل، وإعلان فتوى الجهاد الكفائي، من قبل المرجعية الدينية في النجف الأشرف، تطوع محمد مع شباب المنطقة، للدفاع عن الأرض والعرض، وأصبح أحد مقاتلي الحشد الشعبي، وما هي إلا مدة قصيرة، ونال شرف الشهادة، تاركاً ولده الصغير، وأمه المسكينة، وزوجة بعمر الزهور، إنها صدمة كبيرة للعائلة، وخاصة أم جاسم، ولكن ايمانها بالله، وإقتناعها بأن الفتوى ربانية، جعلها تتحمل هول المصيبة، التي مرت عليهم رغم فقدانهم لإبنهم.
إنقطعت أمام جاسم سبل الرزق، فخرج يبحث عن عمل، إلا أنه لم يفلح، وأصبح عامل بناء، يعمل يوماً ويجلس يوماً، ومرت عليه الأيام ثقيلة، محملة بالهموم، لأن عائلة أخيه الشهيد، باتت حملاً إضافياً، فوق حمل والدته، وأخته المريضة، وأخوه، وزوجته، وأبنائه، يجب أن يعمل من أجل ديمومة هذه العائلة، مدركاً أن فشله معناه تحطم العائلة، وهذا ما لا يرتضيه أبداً، فجاءته فرصة ثمينة، إذ فتح الجيش أبواب التطوع لخدمة البلد، وبنفس الوقت كان الراتب بالنسبة له، يمثل انقاذاً لعائلته المتعبة.
 تطوع جاسم، من دون أن يخبر والدته، إلا في يوم إلتحاقه، عندما وضعها بالأمر الواقع،  فصرخت وبكت، ولكنه كان مصراً على الذهاب، والإلتحاق مع إخوته، وأبناء منطقته الذين تطوعوا معه، ذهب جاسم الى معسكر سبايكر للتدريب، ولم يمضِ على وجوده أكثر من خمسة عشر يوماً، سقطت تكريت بيد الدواعش، وكان جاسم أحد الذين قتلوا على صخرة الموت، في القصور الرئاسية، فأصبح القشة، التي كسرت ظهر البعير لوالدته المسكينة، ذهب المعيل، وقبله أخيه محمد، وأم جاسم في صدمة وذهول، خرجت تبحث عن جثمانه، وعن بصيص أمل أنه مازال حياً، فطرقت كل الأبواب متوسلة لله، ولأي مسؤول في الحكومة العراقية، عسى أن  يرشدوها على مكانه، لكنها لم تحصل إلا على وعود كاذبة، من أناس تسلقوا فوق جثث الأبرياء، من أجل التشبث بالكرسي الملعون.
أغلقت الابواب بوجه تلك المسكينة، وعادت تعمل مرة أخرى، تخبز وتخيط للناس، من أجل جلب لقمة العيش، وأيضا للتنقل بين مناطق بغداد، للبحث عن أي مسؤول يستطيع  مساعدتها، ولو بخبر عن ولدها جاسم، يعيد اليها الأمل، ولكن لا يوجد أمل، في بلد الموت والحرمان، ما دامت وحوش الكراسي، بسيوفها المسمومة، تتصدر المشهد الحكومي، تباً لكم يا أقزام السياسة، آلاف مثل أم جاسم، يوجد في عراق الحزن والألم. 

أحدث المقالات

أحدث المقالات