{إستذكارا لدماء الشهداء التي ستظل تنزف الى يوم القيامة، من أجساد طرية في اللحود، تفخر بها أرواح خالدة في جنات النعيم، أنشر موسوعة “دماء لن تجف” في حلقات متتابعة، تؤرخ لسيرة مجموعة الابطال الذين واجهوا الطاغية المقبور صدام حسين، ونالوا في معتقلاته، خير الحسنيين.. الشهادة بين يدي الله، على أمل ضمها بين دفتي كتاب، في قابل الايام.. إن شاء الله}
بنت الهدى، هي شقيقة آية الله العظمى.. الإمام الشهيد محمد باقر الصدر، أعدمهما الطاغية المقبور صدام حسين.. كلاهما معا.. العام 1980، بعد تعذيب فظيع، دام طويلا، وهما جلدان يقاومان بسر قوة إستفزت الطاغية، وأصابت جلاديه بسعار الشراهة للدم.
إسمها آمنة حيدر الصدر، ولدت في بغداد 1937، من عائلة علمية متدينة.. والدها الفقيه المحقق آية الله حيدر الصدر، توفي عنها وعمرها سنتان.. والدتها كريمة العلامة الشيخ عبدالحسين آل ياسين، وهي أخت المرجع الديني الشيخ محمد رضا آل يس.
دراستها
تكفلها أخواها.. إسماعيل ومحمد باقر، يعنيان بتربيتها، إذ تلقت من العلوم الدينية والشؤون الاجتماعية والثقافية، ما مكنها من الحلول بمنزلة “رائدة العمل الإسلامي في العراق”.
لم تدخل المدارس الرسمية، لا ليحرماها من علم هم أهله؛ فبيتها مدرسة، وعائلتها معهد، إنما ليعلماها مبادئ القراءة والكتابة والحساب ومناهج وزارة التربية والنحو والمنطق والفقه والأصول وباقي المعارف الإسلامية، حسب مقتضيات التدرج والتبسيط، لما أحسا فيها من الاستعداد للاستيعاب الذكي.
نبوغ رباني في أستيعابها المتفوق، وقدرتها على الإفصاح عما يتعذر على البشر العاديين بلوغه، من تأثير في المتلقي.. قراءة وإصغاءً، لما تكتب أو تقول.
ينقل عن والدتها، أن آمنة ميالة للإنفراد بنفسها.. خلوة تبتل لله، منذ الصغر.. تنشد الهدوء؛ صفاءً وليس إنطواء عزلة؛ لأنها إجتماعية الطبع، وفق منهاج توقيتات مدروسة، لاتفريط فيها بالزمن ولا تجاهل للناس من حولها.. مقياس وعي دقيق التراكيب في تنظيم العلاقة، مع الما حول.
لا تدع إجتماعيتها تفرض عليها هدر الوقت وتبديد الجهد، في حلقات أحاديث مفرغة، إنما إستثماره بالجدية النافعة، تأملا عدته تهيئة لبذل الغالي والرخيص في سبيل الله.
رحلت مع أخويها حين قررا إكمال دراستيهما، في النجف، وعمرها آنذاك أحد عشر عاماً.. دارسة الى جانبهما كتب اللغة وعلومها والفقه وأصوله والحديث وشؤونه والأخلاق والقرآن وتفسيره والسيرة النبوية، مستنبطة الهداية نحو العظة الحسنة، لتقديمها واضحة للنساء…
هامش أقوى من المتن
آمنة حيدر الصدر.. بنت الهدى.. زينب العصر، إتسعت معالم إطلاعها ومعرفتها، إذ تروي أحدى مريداتها: “كنت صغيرة، من عائلة تعاني شظف العيش، لا تستطيع ان تخصص لي مصروفا يوميا، أكثر من “عشرة فلوس” أجمعها؛ لشراء كتاب إسلامي، ولي صديقة تفعل مثلي، لكنها تشتري كتاباً آخر، كي نتبادلهما، إستقرت قراءاتنا على مؤلفات بنت الهدى؛ لما وجدناه فيها من غزارة علم وسبك مشوق.. أمست نديم ليالي تثقيفنا الذاتي.. على هامش دراستنا المنهجية، لكنه هامش أقوى من المتن”.
من آثارها المعرفية: “كلمة ودعوة” وهو أول كتاب صدر للشهيدة، أوائل الستينات، و”الفضيلة تنتصر”.. قصة إسلامية طويلة، تبين أرجحية التقوى على الفاحشة، صدرت ضمن سلسلة “من هدي الإسلام” في النجف، و”المرأة مع النبي” و”إمرأتان ورجل” رواية قصيرة، تحمل معاني كبيرة في التربية والتوجيه،.طرحت فيها شبهات واشكالات، ترد على عقيدتنا ثم ردّتها بقوة الدليل وقطعية البرهان، بصياغة أدبية رائعة عن طريق المراسلة بين سائل حائر ومجيب واع، لم تغفل تداعيات المشاعر وإرهاصات العطفة، بإنتقائية رفيعة.. تنم عن علو جناب في التناول، لخلجات النفس البشرية، حاملة النقائض، و”صراع من واقع الحياة” مجموعة قصصية أعطت حلولا لمشاكل نفسية واجتماعية، و”الباحثة عن الحقيقة” قصة طويلة، كتبتها العام 1979طارحة فيها مسألة دينية جوهرية، تشير الى ان الإيمان ليس مجرد رموز ونعوت تملى من قبل الأهل، ولا نطق بالشهادة؛ مراءات لمسايرة الفطرة العائلية؛ إنما هو عقيدة ونظام، و”ذكريات على تلال مكة” كتبتها بعد أداء فريضة الحج سنة 1973، بصحبة ست نساء، تروي فيها كيفية أداء المناسك، أعبقتها بقصيدة طويلة، عن رحلة الحج، و”الخالة الضائعة” مجموعة قصصية 1974، و”لقاء في المستشفى” قصة تدحض فلسفات مادية بطريقة سلسة.. مفهومة، على شكل حوار يشد القارئ؛ لانه يترقب العلاج لاحداث عائلية واجتماعية من صميم الحياة اليومية، و”ليتني كنت أعلم” وصدرت لها دراسات أخرى، وهي مع ذلك شاعرة إسلامية هادفة لها شعر كثير منشور في بعض المجلات.
أتحفت المكتبة الإسلامية، بمعين ثر، من المؤلفات، متنوعة الأشكل.. قص وبحث وشعر، يصل برسالة الإيمان تعمر قلب المهتدي وتهدي الضال، الى ظلال إسلام حق.. لا مراءات فيه.
إستشهادها
قتل المجرم صدام، كلا من السيد الصدر وأخته بنت الهدى ــ رضوان الله عليهما ــ بنفسه؛ حسب رواية أحد منتسبي الأمن، ممن تواجد في غرفة الاعدام: “أحضروا الإمام الى مديرية الأمن العامة، وقيدوه بالحديد، ثم جاء الطاغية، وقال باللهجة العامية: “ولك محمد باقر تريد تسوي حكومة” مهشما رأسه ووجهه بسوط بلاستيكي صلب، رد السيد: “أنا تارك الحكومات لكم” وحدث جدال بينهما عن هذا الموضوع وعلاقته بالثورة الإسلامية في إيران؛ مما أثار صدام؛ فأمر جلاوزته بتعذيبه، تعذيباً قاسياً، ووجه بجلب الشهيدة بنت الهدى ــ يبدو أنها عذبت في غرفة أخرى ــ جاءوا بها فاقدة الوعي يجرونها جراً، لما رأها السيد استشاط غضباً ورقّ لحالها، قائلا: “إذا كنت رجلاً ففك قيودي” أخذ المجرم سوطاً وضرب العلوية، وهي لا تشعر، آمرا بقطع ثدييها، ومحمد باقر يفور غيظا: “لو كنت رجلاً فجابهني وجهاً لوجه ودع أختي، لكنك جبان وأنت بين حمايتك” غضب الطاغية وأخرج مسدسه فأطلق النار عليه ثم على أخته الشهيدة وخرج كالمجنون يسب ويشتم”.
تلوثت يداه بالدم الطاهر، ولسانه بأقذع الألفاظ.. سمة المتكلم، بينما فاضت روحيهما الى بارئها، تستقي ماء الكوثر، وقد وقف عنده جدهما محمد (ص).
شعرها
“أنا كنت اعلم ان درب الحق بالاشواك حافل
خال من الريحان ينشر عطره بين الجداول
لكنني اقدمت أقفو السير في خطو الأوائل
فلطالما كان المجاهد مفرداً بين الجحافل
ولطالما نصر الإله جنوده وهم القلائل
فالحقّ يخلد في الوجود وكل ما يعدوه زائل
سأظل أشدو باسم اسلامي وأنكر كل باطل”.