19 ديسمبر، 2024 12:03 ص

بناء الدولة وخطاب الخنادق المتقابلة

بناء الدولة وخطاب الخنادق المتقابلة

يوجد سؤال معرفي يطرح في حقول العلوم الإنسانية عامة والفكر السياسي خاصة مفاده ،هل يمكن الحديث عن بناء الدولة ؟ بمعنى ،هل من الصحيح أن يقال بناء الدولة قصدا للمدلول الحقيقي لهذا المفهوم ،أي أنشاؤها من العدم ؟
في الادبيات السياسية ،العناصر الرئيسة المكونة للدولة ثلاثة :(الشعب والإقليم والسيادة) ،فلا دولة بلا شعب أو بدون جغرافية محددة أو بدون سيادة بمستوى مقبول على الاقليم والشعب المقصود .وانطلاقا من هذا التحديد ،هل تعني عملية بناء الدولة ايجاد العناصر الثلاثة او بعضها من الوجود الى العدم ؟
لا شك في ان ما يتم تداوله اليوم لمصطلح بناء الدولة لا يقصد به تلك العملية (النادرة أو المستحيلة ) التي تخرج كيان ما من العدم إلى الوجود ،بل يطلق على مراحل الصيرورة والتحقق المستمر والتكامل المتتابع لعناصر الدولة بـ (عملية بناء الدولة) ،ولعله  يقصد بالذات (المشروع المتكامل لرسم علاقة متوازنة وواضحة بين السلطة والشعب وبيان خارطة المسؤوليات والمواقع لكل منهما في عملية البناء ،وهو بهذا الشمول أوسع من مدلول مفهومي الدستور والتنمية الشاملة ).
إن ما يجري الحديث عنه بشأن عراق ما بعد نيسان 2003 هو ما تم الإشارة إليه أخيرا ،فبناء الدولة العراقية الجديدة  على هذا الفهم يعني :السعي للوصول إلى مشروع متكامل للدولة ،يوضح مكانة ومسؤوليات السلطة والشعب ،ويستوعب جميع الثروات المادية والاعتبارية ويرسم منهجا لتنميتها وعدالة الاستفادة منها ،وبهذا يساهم في تحريك صيرورة تكامل العناصر الثلاثة لـ(العراق) ،بحيث تصل إلى الحدود المناسبة.
منذ بداية التغيير والجميع يتحدث ويلوك مصطلح (بناء الدولة) و (دولة المؤسسات) و(دولة القانون) و(دولة المواطن) و(الدولة المدنية) و(العراق الجديد) و تسميات أخرى مشابهة أو مفارقة لتلك المصطلحات .والسؤال المركب في إزاء هذا الحديث :هل يدرك هؤلاء المتحدثون معنى ومغزى هذه المصطلحات (أي يفهمون ما هي حدود هذه التوصيفات وما تعني من مسؤوليات وحقوق ،وعلى فرض فهمهم لها ،فهل هم مستعدون لقبول النتائج وخارطة التقديرات التي تفرضها تلك المفاهيم ،ومع تجاوز هذه المرحلة ،فهل هم مستعدون للعمل الجاد من أجل تحقيقه )؟
أدري أن الكثير سوف يرفعون عقيرتهم معترضين :لماذا أنتم معاشر المشتغلين بالبحث ودارسي العلوم السياسية تدعون احتكار معرفة المفاهيم والأفكار المتصلة بالسياسية وشؤونها وهي متاحة للجميع ،وبإمكان الفرد تحصيلها عبر الثقافة العامة ؟ وجوابهم :أني أوافق هذا الاعتراض نسبيا ،وأؤكد إمكانية الحصول على الكثير من المعرفة السياسية خارج دائرة الاختصاص ،لكن بشرطين :الأول ،أن يسعى الفرد بصدق وجدية للحصول على المعرفة السياسية وليس الاعتماد على تخيلاته وبدعياته التي ما أنزل الله بها من سلطان .والثاني ، أن يكون الإطلاع على مصادر تلك المعرفة الحقيقية ،وليس من خلال مطالعة بعض الصحف والمجلات (مع تقديري الكبير للجهد المعرفي الذي توفره الصحف والمجلات ) ،مع التأكيد على ضرورة توفر أرضية الفهم (أي القابل بحسب الاصطلاح الفلسفي).
ونتوقع ان يرد اعتراض اخر مفاده :لماذا تتهمونا بعدم العمل من أجل بناء الدولة ،ألا يكفي أننا نصرح ونخطب ونتحدث ونحضر جلسات البرلمان ونعمل في دوائر الدولة المختلفة ،أليس هذا بناء الدولة ؟
وأيضا من حقهم علينا الإجابة ، فهذه الفعاليات إيجابية وتساهم بقوة في عملية بناء الدولة شريطة أن تكون في سياقها الصحيح ،وأن تقدم من أجل بناء الدولة لا من أجل بناء الذات والحزب ، وألا يقابل هذا العمل فعل آخر يقوضه.
بعد هذا التحليق في الإطار النظري نلامس من قرب واقعنا العراقي ،وعند لحظتنا الراهنة خصوصا والتجربة العراقية هذه الأيام تعيش أزمة خانقة تختلف حولها التكهنات ،وأقل ما يقال فيها أنها ساهمت في تعقيد الملفات المفتوحة منذ نيسان 2003 ،ومراكمة الاستحقاقات ،وأباحت للآخرين فرص التدخل السلبي ،وباعدت المسافات بين الشركاء ،ورفعت من سقف المطالب ،وعقدت طرق الحلول.ففي ظل هذا الوضع كيف يمكن قراءة السلوك السياسي الذي يدعي بجميع تنوعاته نضاله من اجل بناء الدولة وحماية التجربة الديمقراطية الجديدة ؟
أتوقف عند جزئية واحدة من هذا ،والتي اطلقت عليها (خطاب الخنادق المتقابلة).
ابطال كثر هم قادة وجنود الخنادق المتقابلة ،وقليلون هم الناجون بأنفسهم من التورط في الانخراط في هذه اللعبة القاتلة ،فبرلمانيا :(صباح الساعدي ،حنان الفتلاوي ،ياسين مجيد ،وحدة الجميلي ،سلمان الجميلي ، الدايني ، مها الدوري ،مؤيد الطيب ،فرهاد ،أسامة النجيفي ،وآخرون  غيرهم ) ،طبعا مع كامل تقديري واحترامي للذوات الذين ذكرت أسمائهم ،ومع فهمي للمسؤوليات والملفات المعقدة التي يتحدثون عنها ، ومع إدراكي للمشروعية البرلمانية التي تضمن حصانة النقد والمحاسبة للنائب ،ولكن أتحدث عن المخرج النهائي لظاهرة الخنادق المتقابلة ،والتي تفرز نفسها في جبهات قهرية التضاد حتى وإن لم يرغب أبطال العملية بتلك النتيجة.
والسؤال:أين يمكن تصنيف (خطاب الخنادق المتقابلة ) من بناء الدولة ؟هل يمكن الحديث عن خطوات لهذا البناء في ظل خطاب منقسم ومتقاطع؟وهل تبرر المشكلات السابقة والحاضرة هذا النوع من الخطاب؟اين يمكن أن نضع خطوة مثل زيارة السيد أسامة النجيفي في لحظة أزمة مختنقة إلى بلد متهم بالتدخل السلبي في الراهن العراقي ،وبسبب غير معقول ،مرافقا بخطاب تصعيدي؟هل يمكن أن تقرأ هذه الخطوة وما ولدته من أخذ وجذب في إطار استحقاقات بناء الدولة؟
ربما يقول البعض:إن هذا الحديث ترف فكري ،فالبلد يشتعل بالأزمات والصراعات ،والخنادق المتقابلة نتيجة طبيعية لهذه الصراعات ،لذلك فإن الحديث عن ضرورة الترفع عن تلك الخطابات ضرب من الخيال ،لأن السبب الموجب لها موجودا وما لم تتم معالجته تبقى ضرورة ملحة.
اتفق مع الصورة الظاهرية لهذا الطرح ،وأقاطعها بسؤال مفاده :ولماذا تبقى الملفات مأزومة ،والصراع محتدما والخلاف مستقرا؟هل بحث الجميع في الخيارات المتاحة والممكنة وبنية صادقة من أجل الوصول إلى الحل ولم تنفع الحلول ولم يصلوا إلى نتيجة؟ماذا يفعل الجميع من اجل انجاح بناء الدولة ؟؟
كثيرا ما تتم الإحالة في مثل تلك الأوضاع إلى طاولة الحوار ،وإلى طرح الملفات أمام النقاش الحر ،ولكن اليوم أعيد ما تحدثت عنه في مناسبات متعددة سواء عبر الأحاديث التلفزيونية أو في الابحاث والمقالات ،وأقول : ما لم نقف بشجاعة عند ذاكرتنا المجروحة في جزئيها (ما قبل 2003) و (ما بعد 2003) نفتح الصدور والقلوب ،ونضع النقاط على الحروف ،ويعترف كل منا للآخر بنوع المشاعر والأحاسيس والمخاوف والهواجس التي يحملها تجاهه ،لا يمكن للثقة أن تجد طريقها إلى علاقة الشركاء ،الأمر الذي يعني بعبارة واضحة (وهم الحديث عن بناء الدولة العراقية الجديدة).
* مدير المركز العراقي للبحوث والدراسات