من شأننا نحن العراقيين عند طمأنة مضيم او مكروب التخفيف عنه بكل الوسائل المتاحة لنا، وإبداء الوجه المشرق للحياة أمامه لتذليل مايمر به من كرب، وبعث الأمل في نفسه، وتهدئته بالقول أن ضائقته ستفرج، او ان مشكلته ستحل، ونأتي بأمثال في محاولة لتبديد اليأس واستبداله بالتفاؤل، فنقول مثلا: (الله مايخلـِّي حمل مطروح) او نستشهد بأبيات كبيتي الإمام الشافعي:
رُبّ نازلة يضيق منها الفتى ذرعا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكان يظنها لاتفرج
ان من يتتبع ويتقصى الأحداث والتغيرات التي مرت بها دول العالم لاسيما الاوربية منها بعد الثورة الصناعية، يلمس ان هناك طفرات نوعية تعدّت الجانب الصناعي، فشملت جوانب عدة بلغت ذروتها في القرن المنصرم. فقادة تلك الدول نحوا منحى البناء والإعمار بكل ما أوتوا من قوة، وأولوا اهتماما خاصا بالعلم والعلماء، وساندوهم وقدموا لهم الدعم المادي والمعنوي، وعملوا على ادخال التحديثات التكنولوجية بأنواعها كافة الى الصناعة والزراعة والطب بكل التقنيات التكنولوجية التي كانت تُستحدث حينها، لتندمج مع رحلة التطور في مركب واحد. وكل تلك الطفرات كانت تحدث بفترات زمنية قريبة من سنين الصراعات والمحن والحروب والفتن الداخلية، بل أن عمليات البناء والإعمار لم تكن تسير وحدها في طريق معبدة من دون مضايقة، ولم تكن تلك الطريق خالية لزراع الخير وحدهم، بل كان لزراع الشر حضور كبير، يكاد يفرض نفسه على السمة العامة للحياة آنذاك. وقد ثبتت صفحات التاريخ مآسي عاشها الشارع الأوربي إبان تلك العقود، فيروى أن جثث القتلى من الأهالي الأبرياء كانت ترفع صباح كل يوم من أزقة المدن بمركبات ترسلها الكنيسة، كما أن عمليات حرق المنازل وتهديمها كانت من الظواهر اليومية الاعتيادية التي يقوم بها أناس من المدن ذاتها، وكذلك كان تهجير سكانها على قدم وساق.
هكذا عاش الأوربيون القرون الوسطى، وكان لكنائسهم الدور الأول في إضرام النار في الهشيم، من خلال الدسائس والمكائد والمؤامرات التي أنتجتها الضغائن والأحقاد بين الطوائف، بسبب رجال دين مسيسين متلونين يميلون حيث تميل رياح مصالحهم الشخصية والفئوية، مقابل هذا كان هناك سياسيون شريرون لاتهمهم مصلحة البلاد ولا سلامة العباد، فراحوا يساومون بحياة الناس بأنانية حيوانية غريزية أودت بحياة أجيال بأكملها. ولم يتغير وضع الدول تلك حتى جلس الخيرون على طاولة الصلح، ورأوا أن الجميع يخسر باستمرار الخلافات ولارابح من بينهم، فوضعوا النقاط فوق الحروف بشكل أنهى كل حالات العنف، وأخذ التعامل مع الآخر يأخذ طابعا مختلفا، فعم الخير وساد الهدوء الأجواء، ووصلوا الى مانعهدهم اليوم عليه، ومازالوا يتسابقون مع الزمن في نشر السلام والوئام والرفاء فيما بينهم.
في بلدنا العراق الذي يُعَد سليل أولى الحضارات في التاريخ، لو قارنا الأحداث التي مر بها مع أحداث اوروبا في الفترة عينها، لوجدنا أنهم قد سبقونا بالويلات والمصائب، لكني أرى ان بيتي الإمام الشافعي اللذين ذكرتهما في بادئ مقالي هذا، تمثلا في تلك الشعوب، كأنه قد قالهما بحقهم، وكأنهم أخذوا بها واستبشروا الخير والأمل، فانفتحوا على العالم بمنظار جديد وروح تواقة للتغيير نحو الأحسن. وقطعا لم تحصل هذه الطفرة النوعية لديهم إلا بعد أن أدركوا ان النار لاتطفئها النار، والخراب لايُعمر بالخراب، والرذيلة لاتعالج بالرذيلة.
اللافت للنظر والعجيب والغريب والمحير في الأمر، أن الأوربيين توصلوا الى هذه الحقيقة وليس فيهم من قال: “الناس صنفان.. إما أخ لك في الدين او نظير لك في الخلق”..!