اعترف هنا اني ظلمت الدكتور هشام داوود الطبيب والباحث العراقي المعروف في علم الاجتماع ظلما استباقيا حين أُعلن عن استضافته من باريس محاضرا على طريقة مركزالرافدين للحوار، ابرز المجاميع التي استثمرت خدمة التواصل الاجتماعي (الواتساب) ، لتنشيء ميدانا للحوار العراقي استقطب نخبة من ابرز صناع القرار وصناع الراي بما يشكل نواة لمؤسسة كبيرة ترسم السياسات وتقدم الاستشارة المخلصة ، بادارة شابة طليعية، من مشرفين وشورى جمعوا بين الادارة والفكر متحمسين لجعل مناخ الحوار وتقاليد النظام الداخلي او مواعيد واصول المحاضرات ومستوى الجدل والحوارات محترفا ومفيدا . فحين اعلن المركز عن محاضرة الدكتور هشام بمناسبة مرور مئة عام على اتفاقية سايكس – بيكو ، قلّبتُ جميع احتمالات مجرى المحاضرة قبل ان تنجز ، مالجديد في معاهدة دخلت كراريسنا منذ صبا اجدادنا ، قرأوا وقرانا عنها الكثير وكتبنا اكثر وواجهتنا في شؤوننا ونحن نحصد من تداعياتها شتى صنوف التحولات السياسية ؟. ومالذي يضيفه باحث – اي باحث – اليوم الى معاهدات بالية يمكنك ان تضع اسمها في محرك البحث غوغل ليخرج لك قضّها وقضيضّها ؟.
وكي لايتحول ظلمي للمحاضر الى ظلم لنفسي ، قررت ان استمع فقط الى الدقائق الاولى لاطمئِنّ الى يأسي . مضت الدقائق تلو الدقائق وواصلت الاصغاء باستمتاع ومتابعة الى اسلوب وعمق واستقلالية المحاضر في متن محاضرته اواجاباته الفَطِنة على اسئلة اعضاء المركز وجدله مع المداخلات التي اغنت الموضوع وهو يناقش تداعيات مثيرة مهمشة في ظل الحوادث ويقرا بمهارة اسقاطات التاريخ السياسية والاجتماعية والعقائدية وايضا النفسية ، بواعث سايكس بيكو وفرضياتها والتحديات التي واجهتها ، كيف يتاسس المستقبل بعد طوفان القوة والضعف والهيمنة والخيانة ؟، ماهي معايير اعتبار ضحايا المعاهدة ضحاياها؟ وماهي افاق المنتصرين ؟ . كيف استثمرت الدول الاستعمارية الكبرى اصطدام المجتمعات بانظمتها القاسية لتجعل مصيرها الاداري عجينة تخبزها بالطريقة والتوقيت اللذين تراهما ؟ . مع تركيز المنتصرين على جعل المنطقة سوقا لتبضع ( لقب دولة ) ترتادها القوميات والثورات وبقايا الامبراطوريات عارضة خدماتها التاريخية القادمة لاولياء الامور الذين كسبوا الحرب روسيا وبريطانيا وفرنسا . وما رافق ذلك من مراجعات متاخره للدين والسلطة والاقتصاد والتراكيب الاجتماعية المختلفة . هذه القراءة اللامعة والاجتهاد خارج النص، قراءة المثقف المعاصر والباحث الجريء في انفاق التاريخ السيا-انثروبولوجي الجاثم بمسلماته على اللوائح والكتب . عرّفتنا بمفكر مجتهد جريء ومنحتنا محاضرة قيّمة اوقعنا الظن بنجاحها في اثم صريح. اما مداخلتي المتواضعة في عيد ميلاد (سايكس بيكو) الساحرة المخيفة التي يهددوننا بها حتى اليوم، الخّص مافيها من دروس وشكوك. كالتالي :
ان تاريخ العرب والمسلمين يتكرر ، لاتوجد دولة اسلامية مسلمة بشرف ، فقد كانت دولة الباب العالي ، دولة فتنة ومجون مازالت اثار محضياتها واباطرتها وضباطها وقوّاديها وباشواتهم واساليب حياتهم حتى يومنا هذا في العراق ومصر واية دولة مرت سياط سلاطينها عليها مع اغراق البلدان بالديون والعنف والرذيلة والاستبداد ، وكأنّ ( اللذة – القسوة ) ثنائية معتادة في حكم دول العقائد تلك . . مما جعل المسلمين ومن معهم من العامة يستنجدون بدول الكفر القوية لتخليصهم ولدعم ثوراتهم الوطنية ورغباتهم بالاستقلال، ليس العامة فقط بل وصلت الى الولاة والاتباع من تذمر ونقمة وطموح كما تشير مجموعة رسائل متبادلة بين الشريف حسين بن علي أمير مكة المكرمة مع المندوب السامي البريطاني السير آرثر هنري مكماهون للتفاوض حول شكل الدولة العربية التي ستمنحها بريطانيا للعرب بعد ثورتهم على العثمانيين ومساعدة بريطانيا في انهاء (دولة الاسلام).
الوقفة الاخرى، ان الشعوب التي اسعدها التحرر بعد ثورتها على الاستبداد ومنحتها الدول الكبرى صك الدولة وصممت لها علما وطنيا ..توهمت ان ماحصل هو استقلال ولم تتامل خرائط مناطقها المفخخة ، بالنزاعات المستقبلية التي يحين وقت تاجيجها الان .
الوقفة الاخيرة الخطيرة ..ان الدول المنتصرة عسكريا تدرك ان هناك فرقا كبيرا بين دول تقوم على حضارات كبرى مثل العراق والشام مقابل قبائل وقطّاع طرق يمنحونهم دولا مجاورة لها .. مما خلق ما يمكن تسميته بشيزوفرينيا الشعوب ، الشعب العراقي مثلا لايعرف هل هو شعب عمرة الاف السنين وشهد حروبا كبرى ومعارك تاريخية دينية وغير دينية وله اثار ومقدسات وانجازات كبرى وقدرات استثنائية ام انه شعب في دولة ضعيفة نامية عمرها كم سنة ، اسسها له السفيران سايس وبيكو ومنحاه دولة حالها حال الكويت وقطر وام القيوين واعترافا وعلما وطنيا واسسا لهم جيشا يمشّي حالهم الى ان يقفوا على اقدامهم. فيسلموهم لابنائهم العسكر وحكوماتهم الوطنية الدامية ليحرقوا ماتبقى من اثر للحضارة والقيم ومؤشرات التطور كما حصل لاحقا.
المشكلة ان هذه الاسس مازالت تمثل للاقوياء المنتصرين دوما خارطة طريق لمستقبل المنطقة .
الحالة الان ، هنالك شعور عام بان خرائط سايس بيكو انتهت صلاحيتها وحققت اغراضها : ولابد من تجديدها وفق متطلبات العصر ووسائل الحياة ومتغيرات السياسة الحديثة :
– دول الارث الحضاري ،اهينت وعُوّقت وانتهى دورها وتاثيرها ..
– دويلات المشايخ وقطاع الطرق، تطورت و شهدت تنمية وبناء واستثمار للثروة وظلت تحت جناح الاحتلال والتبعية الاجنبية باشكال مختلفة من العلاقات حتى اليوم .
– شعوب المنطقة الاساسية وصلت حالة الياس من تغيير حكامها ومقاومة السلطة والمال والنفوذ ،بعد ان وفّر الفشل في ادارة الدولة وتركيز قوتها وقبضتها فقط على رعاياها فرصة استدراجها للاستقواء بالاجنبي بعد ياسها من التفاهم مع حكامها.
– غياب للقضاء والمحاسبة والامن والتنمية. بمعنى انعدام الاسس التي توهل دول المنطقة لدخول نادي المستقبل ….
– توفر المشارط الشرسة من داعش وميلشيات لتقطيع اوصال البلدان وتوسعة دائرة افتراس المسلمين لبعضهم حسب المخطط.
كلها عوامل تساعد المراقب على تخيل شكل الخارطة (السايكسبيكوية) المقبلة . فيما تظل شعوب المنطقة منشغلة بتخيل شكل الحياة في الآخرة. .