22 نوفمبر، 2024 5:51 م
Search
Close this search box.

بمناسبة رحيلها غريبة : ديزي الأمير كتبت عن غربتنا قبل أربعين عاما

بمناسبة رحيلها غريبة : ديزي الأمير كتبت عن غربتنا قبل أربعين عاما

بغداد المحروسة
(الحكم على إنسان بالحياة أسوأ من الحكم عليه بالموت)
ديزي الأمير)
قصة ( البيت العربي السعيد )
مبكر وشاسع الأصداء هم الغربة والاغتراب الذي سيطر على المجموعتين القصصيتين الأوليين في حياة المبدعة العراقية ” ديزي الأمير “. فمن الناحية الزمنية صدرت المجموعة الأولى للكاتبة ” البلد البعيد الذي تحب ” عام 1969 – وأعيد طبعها لمرة الثانية في عام 1979. أما المجموعة الثانية ” البيت العربي السعيد ” فقد صدرت عام 1975وأعيد طبعها للمرة الثالثة عام 1979 . أما من ناحية سعة الهم وسيطرته على انشغالات الكاتبة ، فيكفينا القول أن المجموعة الأولى قد ضمت تسع قصص من مجموع ثلاث عشرة قصة ، ثم تصاعد هذا الهم في المجموعة الثانية ليكون الموضوعة المركزية في عشر قصص من مجموع اثنتى عشرة قصة !! . لكن ما هو أكثر أهمية هو تلك الحياة الموحشة الكئيبة لبطلاتها – وأغلب بطلات الأمير من النساء – والتي توصل إليها هواجس الإغتراب التي يكون فيها الفرد غريب الوجه واليد واللسان ، لا يستطيع التفاهم مع من حوله ، بل لا يتواصل معهم ، ويعجز عن تأسيس علاقات إنسانية دافئة مع الآخرين . تصبح مقولة أرسطو التقليدية ” الإنسان حيوان اجتماعي ” لعنة ، حيث يدفع المجتمع ببطلة القصة إلى المزيد من العزلة ، ويحشرها في زاوية خانقة تصير فردوسها المليء بالعذاب والإحباط .
والغربة والاغتراب لغويا من غرب غربا أي ذهب وغرب فلان عنا : تنحّى ، وغرب في سفره : تمادى ، وغرب غروبا الرجل : تباعد، وغرب نزح عن الوطن ، ومنه الغروب والمغرب والغرابة والغراب وشدة الوجع والمبالغة في الشيء ( المنجد في اللغة – ص 547و548 ) . وكلها متضمنة في سلوك شخصيات ديزي الأمير القصصية وسماتها الأساسية ، سواء من اغتربت عن وطنها – بعدت جغرافيا وتأسس على البعد الشعور بالوحشة والعزلة ، أو التي بعدت نفسيا عن الآخرين وهي في وطنها وبين أناسها فعاشت المحنة ذاتها . 1– مجموعة ” البلد البعيد الذي تحب ” : وبالمناسبة لا توجد قصة بهذا العنوان في المجموعة ، إنه عنوان إطاري يحدد الإنشغال الرئيسي في قصص المجموعة ، ودلالاته وإيحاءاته حاضر في أغلب قصص المجموعة بدءا من القصة الأولى
أ‌-قصة ” المرحلة الرابعة ” : التي تتحدث عن امرأة مغتربة تعاني من روتين حياتها اليومي المقيت . وقد قطعت شوطا في المراحل الثلاث من عملية جرد وتنظيف وإعادة تنظيم حوائج الخزانة الأسبوعي . ومصادفة ( انزلقت من الكيس صورة ملونة التقطت لها في ذاك ” البلد البعيد الذي تحب ” .. كانت جالسة في قارب تجذيف – ص 7و8) . في الصورة تبدو ممتلئة بالحياة والأمل والتفاؤل . لا يبدو ذلك على وجهها حسب بل حتى على ملابسها الجميلة . لكن الآن لم يبق أي شيء . ومن خلال مراجعة مصائر مفردات الصورة : الفستان الأخضر والمعطف والحقيبة الصغيرة .. والأهم الشخص الذي لا تظهر منه سوى كفه الممسكة بالسيجارة ، يتأكد لديها خواء عالمها الراهن .. وحقيقة أن كل شيء محكوم عليه بالزوال : (تطلعت في المرآة تفتش عن الماضي ، وهناك في المرآة رأت كفها الأخرى تتعاون مع الأولى على تمزيق الصورة قطعا صغيرة .. ثم أصغر .. فأصغر . . وأصغر . انتهت من المرحلة الرابعة والأخيرة لعملية الجرد الأسبوعي للخزانة – ص 11 ) . إنه جرد محتويات خزانة حياة خاوية استنفدت سعاداتها وامتص الزمن محتوياتها النابضة بلا رحمة .
ب – قصة ” السجادة الصغيرة ” : تتحدث عن فتاة مسحوقة الإرادة ، ممسوخة الوجود . تعاهد نفسها على أن لا تعود إلى بيت عمها وزوجته اللذين يستغلانها ، وأن تحقق ذاتها كما تريد . لقد استبدت زوجة عمها بكل شيء بعد وفاة أمها وانتقالها للعيش مع عمها . حتى السجادة الصغيرة العائدة لأمها جعلتها مداسا عند الباب ، وحين حاولت تغيير مكانها نهرتها زوجة عمها . وفي رحلتها من بيت ابنة عمها ، وخالتها وصديقتها يتأكد لديها أن كل من حولها استغلاليون أو في أبسط الأحوال أنانيون مكتفون بحالهم أو منافقون يمالئون التظاهر بالسعادة ، ولا يستطيعون الإحساس بهموم الآخرين من خلال التعاطف الإنساني العميق . في النهاية تعود صاغرة إلى بيت عمها .
ج – قصة ” ضباب ” هي ليست حكاية الضباب الفعلي الكثيف الذي أحاط ببطلتها وجعلها تتيه عن بيتها في البلد الغريب الذي تعيش فيه ولكنها قصة ضباب الغربة الذي يحيد بمدارك الفرد الغريب ويشوش إدراكاته . فقد ردت بحدة على دعوة الرجل الأسمر لمشاهدة فيلم سوية ، واعتبرتها إهانة لها هي المسلحة بقيم المجتمع الشرقي الذي أتت منه . لم تفكر لحظة في أنه قد يكون وحيدا مثلها ويبحث عن رفقة . لم ينقشع ضباب حساسية الغريب الذي لف وجودها إلا عندما تاهت ليلا وأصابها القلق وتمنت أن تجد أي إنسان تكلمه حالها حال الرجل الذي صبت عليه غضبها قبل قليل .
د – في قصة ” صلاة المائدة ” تتعرف “هناء” الصغيرة على زيف الحياة والمجتمع وبضمنه عائلتها ، وظلمهم لعمتها التي عاشت وماتت عانسا ، تعتني بأبناء أخيها . وتقارن بين أمها التي أعطتها الحياة كل شيء فكانت راضية عن الله وشعارها ” الله محبة ” ، وبين عمتها المغدورة التي بخلت عليها الحياة بكل شيء وصار شعارها المكتوم ” الله لا يريد أن يراني ” . وتتذكر أن عمتها لم تكن تصغي لصلاة المائدة في حياتها . تشكر من هي المحاطة بالخسارات من كل جانب ولماذا ؟ . بعد وفاة العمة تنفجر هناء في وجه أفراد عائلتها : ( لن أصلي معكم بعد الآن .. لن أصلي لله وفاء لعمتي لأنه لم يزر غرفتها أبدا – ص 78 ) .
هـ – في قصة ” رسالة إلى جدتي ” تعيد القاصة إلى أذهاننا محنة كون العراقي ” حيوانا سياسيا ” والوصف أصلا لأرسطو . فالمرأة المغتربة تهرب من الحب والعلاقات وكأنها تقترف إثما كبيرا ، لأنها منهمة بأوضاع وطنها وأمتها السياسية . وتندهش فتاة البلد الغريب التي أرادت قبل قليل أن تلقي بنفسها إلى الأرض كي تحصل على اهتمام أحد ، من الفتاة المغتربة الهاربة ممن يحبونها . إنها البنية المعصوبة التي جعلت المواطن السياسي بلا قلب معتقدا أن الانشغالات الحبية تعيق مشروعه السياسي ، ناسيا أن لب خراب حياة شعبه هو فقدان القدرة على الحب لدى من يقودونه . كيف يهتم سياسي بالشعب / العائلة الأكبر ، وليس لديه عائلة أصغر يحدب عليها ؟ . لكن مشكلة الإبداع وحسنته الكبرى في الوقت نفسه تتمثل في ” التخريج الخلّاق والماكر ” لانجراحاتنا المخاتلة : تواصل البطلة رسالتها الموجهة إلى جدتها من مغتربها والتي استهلت بها قصتها : ( وستنظرين يا جدتي في عيني تنتظرين خيرا . ليس في عيني يا جدتي غير القلق . القلق الذي لا تعرفين ، والسفر يزيد منه . لقد رفضته يا جدتي لأنه .. لأنه لا يأرق .. إنه لا يعرف معنى التوتر والهرب – ص 140 ) . في أكثر من قصة تحاول ديزي الإيحاء إلينا بأن الإنهمام بتردي الحال العام وبلادة الإنسان يوصل إلى التوتر والقلق وحتى معاقرة الحبوب المهدئة ، وبذلك من تحصيل الحاصل أن يكون السياسي قلقا . ولكن التحليل النفسي الذي لا يعرف المهادنة في الغوص لكشف ما مسكوت عنه يرى أن الفرد يتجه إلى السياسة لأنه قلق ويأرق ، ويعيش تحت ضغوط التوتر والهرب ، لأنه لم يحل عقد شبكة علاقاته بأطراف المثلث الأوديبي . يتأكد ذلك ، ولكن بصورة مراوغة في القصة الأولى من المجموعة الثانية وهي قصة ” عمّة رفيق ” :
2-مجموعة ” البيت العربي السعيد ” : أ – قصة ” عمّة رفيق ” : وهي من أمهات الأدب القصصي النفسي السياسي رغم قصرها : إحدى عشرة صفحة من القطع الصغير . وبالمناسبة فإن من أهم السمات الأسلوبية والفنية لأدب ديزي الأمير هو التكثيف والتركيز ، ولهذا تأتي قصصها ومقالاتها أيضا قصيرة موجزة ورشيقة تماما . وأعتقد أن هذه القصة وقصة ” بيت رابع ” هما أطول قصتين كتبتهما ديزي في المجموعتين . وقصة عمّة رفيق تتحدث عن مناضلة ضحت بكل شيء من أجل قضية أخيها السياسية حتى لم يعد لها وجود شخصي مستقل غير مرتبط بالسياسة والنضال الذي ضيّع حتى اسمها ، فصارت تلقب بـ ” عمّة رفيق ” أي عمة ابن أخيها المناضل الذي سمى ابنه تسمية نضالية . لم يكن يتاح لها العناية بنفسها وفق أدنى المقاييس الأنثوية . حتى أصابعها خشنة كأصابع الرجال . حتى الجد يبرّر عدم استحسان تبرجها مثل زوجة أخيها بالقول : ( إنها زوجة ويجب أن تتزين لزوجها لترضيه . أما أنت فهل ترضين أن تتزيني لأصدقاء أخيك ؟ وماذ يقول الناس لو اهتم بك أحد هؤلاء ؟ ولو .. ولو لا سمح الله ، قال أخوها ، أحبك واحد منهم ، فهذا معناه أنني أشركتك في مهمتنا الوطنية لأجد لك زوجا . أنت محصنة ضد كل هذا بتصرفك الرصين وكفاك فخرا أنك أخت الرجال … وضحك فرحا : أليس كذلك يا عمّة رفيق ؟ . – ص 9 ) . إن التبرير يتضمن معاني خطيرة من القدرة على القتل . هذه هي الشخصيات النيكروفيلية التي وصفها ” إريك فروم ” في كتابه ” تشريح التدميرية البشرية ” . يلاحظ فروم أن تشرشل لديه نزعات تدميرية خطيرة لأنه خلال زيارته إلى إحدى الدول الأفريقية كان يقتل الذباب بالمضرب على مائدة العشاء . والمناضل ” أبو رفيق ” هو أسوأ أنموذج من هذا . إنه لم يكتفي بقتل مستقبل أخته ، مثل ذبابة على مائدة عشاء الحياة ، بل تصرف بصورة منافقة وحقيرة حين عطل حياتها الشخصية المشروعة ، وتزوج هو وأنجب . كان يعود من سفراته النضالية إلى الخارج محملا بالهدايا إلى زوجته وأولاده ، وبالكتب السياسية لأخته . زوجته ، هو المناضل الذي من المفترض أن يصنع المستقبل لشعبه بالعلم والمثابرة ، تقرأ الفنجان . إن نمطا من العلاقة المحارمية المغلفة بالحرص السياسي والمديح القبلي الغبي هو الذي خرب حياة قطاع واسع من النساء ” المناضلات ” . لقد جعلوهن – على طريقة ” غوار الطوشي ” – يتبنين القضية حتى الذبول ورحيل قطار الشباب والعنفوان . حتى في صدر الإسلام كانت المجاهدة تقاتل وتتزوج . أي جيل سياسي معصوب وشديد الأذى على الإنسانية هذا الذي يرى أن الحب يعطل مسيرة الشعب ؟ . حتى مسيرة قطيع الأغنام تتعطل حين يفتقد الحب بين أفرادها الأغبياء ؟ . وقد انتزع الأخ المناضل القدرة على الحب من نفس أقرب الناس إليه وهي أخته ، فكيف سيزرعها في نفس أبناء شعبه ؟ . والأخت المحبطة اتي أرهقها النضال الآن في بلد غريب ، تتعاطى العلاج الطبيعي في الحمامات المعدنية لمداراة أجزاء جسدها المتعبة ، وتهمل أجزاء روحها السقيمة بالنضال الكريه . النضال يصبح عبئا كريها حين يميت روح مناضله . لقد حاولت عمة رفيق أن تحجب شخصيتها الحقيقية في هذا البلد الغريب لكي لا يقولون ” تبرجزوا ” . وهذا مظهر عصابي مضاف . حتى الطبيب الغريب كان يتساءل : ” ما تراها تعمل حتى أصيبت بكل هذا الإجهاد ؟ وهذا التوتر ؟ ” . العمل عبادة ، وتنفيس وتفريج ووصفة للصحة النفسية . فأي عمل ملعون هذا يحطم صحة الإنسان وشخصيته ؟ إنه النضال العربي اللعين . يخرّب السياسيون حيوات عائلاتهم أولا ، ليتهيأوا لتخريب حياة شعوبهم . هذا قانون . وهذه المناضلة التي اعتقد رفاقها فخرا أن يلقبوها بـ ” أخت الرجال ” ، وهي سبّة موجعة . وهاهي تقف وحيدة في البلد الغريب ، وفي فترة الغروب الذي سيليه الليل الطويل … تقرّر الدخول إلى بار الفندق .. تدخل غير مسلحة بأبسط المهارات الإنسانية في مثل هذه المواقف . وهذه رسالة ديزي الأمير الكبرى : هؤلاء المناضلون الذين يتصدون في الشرق لتغيير قضايا الكون الكبيرة ، عاجزون عن الجلوس في مطعم متحضر .. بل هم مهملون لا أحد يلتفت إلى نضالهم ولا لقضاياهم … الحياة بسيطة .. هكذا .. مثل إشكالية طلب كأس النبيذ بعد العشاء .. و” أخت الرجال ” التي كانت منزوية خلف ظلال أخيها الشيخ المناضل ، انكشفت ” أخوتها الرجالية ” و ” عمة رفيقها ” بصورة فاجعة .. لقد خرجت مهملة من البار ، ولتعبر القاصة عن حالها المنكسر أبلغ تعبير بالعودة إلى المصعد الذي أنزلها إلى البار : ( المصعد لا يزال هناك موجودا واقفا فارغا ، ولكنه كان يتكلم – ص 15 ) . تتساءل ديزي ، وهي عاشت فعلا جحيم هذه التجربة المهلكة المغوية بصورة مباشرة أو غير مباشرة : ( ما معنى أن لا تنادى باسمها ؟ أبعد كل هذا النضال ونكران الذات والتضحية لم تتوصل حتى أن تسمى باسمها ؟ أتراه شرفا أن لا تكون امرأة ؟ فقط ؟ لمَ هي أخت الرجال ؟ ولمَ هي عمة طفل وليست .. وليست زوجة رجل ؟ – ص 11 ) . تتخفى الأنثى العشتارية المعطاء والخالقة خلف الظل المنافق للذكر المتنفج الطفيلي ، الذي لايد له في ” ولادته ” النضالية ، مثلما هي الولادة البايولوجية التي تتحمل عذاباتها الإلهة الأم ، وقد سئل أبو الحسن : صف لنا الموت ؟ قال : انظروا إلى المرأة حين تلد . حتى هذا الامتياز ضيعه المناضل تحت براقع التضحية التي هو أول من لا يفهم حقيقتها الأصيلة . قصة ” عمة رفيق ” يجب أن تُدرّس في كليات علم النفس وفي معاهد العلوم السياسية لكي يعرف المناضلون الجدد أنهم إذا لم يكونوا عشاقا كبارا مخلصين لحبيباتهم ، لن يصبحوا مخلّصين لشعوبهم . وإذا لم يحبوا ويتزوجوا وينجبوا ، فإنهم سوف ينقمون لاشعوريا على شعبهم الولود الخصب الذي تذكرهم تفاعليته الحياتية الخلاقة بانخصائهم وعجزهم . وعلى أساس هذه الركائز المعصوبة لا يمكن أبدا إشادة قوائم البيت العربي السعيد في البلد الذي تحب . وهذه الرؤية ستنقلنا إلى القصة المكملة ؛ قصة “البيت العربي السعيد” ، ولو راجعنا مجموعتي ديزي بدقة وتمعن لوجدنا أن خيطا خفيا ، لكن ملموسا نفسيا ، يربط حلقات قصص المجموعتين وكأننا أمام كتاب قصصي متكامل
ب – قصة ” البيت العربي السعيد ” : هل يمكن أن يكون الإغتراب لذيذا ؟ . في هذه القصة تقدم ديزي الأمير إجابة فريدة من خلال صورة موازية للحياة الواقعية – وفي الصور الإبداعية المتخيلة الموازية لصور الحياة الفعلية تكمن عظمة الإبداع ، فكم جريمة قتل أب مثل قتل الأب كارامازوف شاهدناها في حياتنا خصوصا في ملحقاتها التفسيرية ولم ترتجف لها أوصال لاشعورنا ؟ – ، وتتمثل هذه الصورة في بطلة القصة ” وحيدة ” – وأغلب قصص ديزي تحكى بضمير الغائب ، وقد تكون هذه آلية لتعميق هوة التواطؤ النفسي المضلّل – التي تقف الآن وحيدة .. مغتربة حتى عن نفسها .. وعمّن حولها .. يستولي عليها شعور ممض بأن اليوم كالأيام الفائتة والأيام الآتية . خواء في خواء في خواء .. والخواء يتصاعد ويتسع مع كل محاولة تقرب مع أي أنموذج بشري . ها هو زوجها يدعوها للحديث مع زوجة صديقه التقدمي التي لا تستطيع الجلوس مع الرجال لأنها محجبة !! . زوجة مناضل تقدمي لا تفقه شيئا سوى أن أم زوجها راضية عنها !! . وفي محاولة تصافقية يجهضها إنهاك الإرادة تحاول “وحيدة ” وهو اسم بطلة القصة – ولاحظ رمزية الإسم لإمرأة غير قادرة على التكيف مع الوسط المريض ، تعيش ” وحيدة” رغم أنها محاطة بمجموعات من البشر ؛ لكنهم البشر المهادنون المتخاذلون – تحاول أن تسأل ضيفتها : ( لم لا تمزقين عباءتك ؟ أتراك ولدت محجبة ؟ أم تولدي عارية ؟ أيهما أقرب إلى الطبيعة ؟ : العري أم الحجاب ؟ – ص 41 ) . البيت العربي السعيد في حقيقته ليس سعيدا لأنه قائم على علاقات منافقة ومواقف تدليسية انتهازية وفهم شديد الخطأ لدور الإنسان في الحياة خصوصا المرأة . هذه ضيفة جاءت مع زوجها ومعها ولدان وفي بطنها ثالث ، وتركت في البيت سبعة !! . وهي والسيدة الكبيرة تنظران لأهمية الكثرة في الإنجاب ، ووحيدة تتمتم مع نفسها بآراء معاكسة لكل ما يطرح أمامها . لكنها لا تستطيع إعلان آراءها الجسورة الجريئة والصحيحة ، لأن اللائي يسمعنها سوف يؤولن أقوالها كدعوة للفجور والاستهتار . آراؤها فريدة ولا نتوقع منها في مجتمع اعتاد على قوانين العيب والتبعية والتقليد إلى أن تشعر بأنها مرفوضة فتزداد عزلة عن الآخرين ، وتتعب أعصابها فلا تجد ما يعينها غير الأقراص المهدئة . ترى من يتحمل رأيا مثل هذا : ( قطعت السيدة الكبيرة صلاتها وجاءت تساهم في الحديث . رددت زوجة التقدمي كلامها عن إعجاب امرأة العم بها فطربت السيدة الكبيرة : رضى الله من رضا الوالدين . قالت وحيدة : والرضى عن النفس ؟ وعادت يداها تعبثان بشعرها فتغلغل الهواء فيه . – هل تصلين ؟ طبعا – هل تصومين ؟ طبعا – كسبت الدنيا والآخرة . ضحكت وحيدة بصوت عال فاستدارت المرأتان إليها . لم تسألاها لمَ تضحك ؟ فالضحكة المستنكرة يهمل أمرها . هذا انفعال آني سرعان ما يتلوه صمت راض . سمعت نفسها تقول : لم تكسبا الدنيا ولن تكسبا الآخرة . الصدق مع النفس هو الدنيا والآخرة ، الانسجام – ص 42 ) . هي الساموراي الرومانسي الأخير إذا جاز الوصف في حياة رتيبة قاتلة كلها رياء . وبيتها محطة لوجبات من المدعوين الثرثارين . ومع كل حوار بليد تعلق تعليقا جريئا مع نفسها ، وتلاعب شعر رأسها بأصابعها إشارة إلى الإكتفاء النرجسي بالذات الأنثوية الباهرة التي تستميت للحفاظ عليها من أن تنطمر تحت ركام الإعتياد والمساومات المنافقة والإنحطاط بالجسد إلى درك الإحتقار كماكنة حيوانية . هي لا تتزين ولا تلبس المصوغات .. في حين تصبغ زوجة التقدمي وجهها بقناع ملون وأصابع يدها مزنرة بالخواتم المعبأة بأقذار العمل البيتي . ( لا وقت لديها للنظافة . سيدة بيت فاضلة يشغلها العمل عن النظافة . النظافة ؟ هي طاهرة تقوم بواجباتها الدينية ، فأين عد النظافة في هذا ؟ – ص 42 ) . وحيدة هي بقية عشتارية غير متوجة وسط جموع النسوة اللاتي يطأطئن هاماتهن ويباركن مهانتهن في عصر الحريم . هي استثناء في الصدق مع الذات والشفافية الآسرة في زمن القاعدة فيه الزيف والمراوغة والمهادنات الماكرة . ما العمل ؟ الحل لدى وحيدة هو أن تتوحد مع ذاتها ، وتنسجم مع جسدها / الأصل / الطبيعة / الخصب / الوجود .. وفي محراب هذا التوحد المقدس تتأسس الديانة الأصل .. الديانة العشتارية .. ديانة الماء والرحم الأمومي الحاني .. الفردوس الأزلي .. وهناك تكون الصلاة الروحية الحقيقية .. وهناك تستغني وحيدة الإلهة المتوحدة في رحم الماء عن الدنيا والآخرة : ( فجأة انتاب وحيدة فرح طاغ وانتظرت بصبر نافد فراغ البيت … أغلقت الباب بالمزلاج من الداخل واستلقت على أول مقعد صادفته . رمت فردة الحذاء . ودفعت بالأخرى بعيدا . قامت إلى النافذة . أسدلت ستائرها ، وإلى الثانية والأخريات كذلك ، وأضاءت النور . نزعت جواربها ومشت حافية . فتحت أزرار ثوبها ، وتركته يتساقط عنها . سارت في أرجاء البيت غرفة بعد غرفة . تسمع صوت الصمت . أصغت إلى الجدران العارية ، وركزت عينيها على الكراسي الفارغة . دخلت الحمام فتحت الدوش وحنفية الحوض واستلقت فيه . رذاذ الماء يتساقط عليها ، والماء يعلو .. يغطيها .. ومن غناء الماء وصلتها الصلاة – ص 47و48 ) .
وتمعن الكاتبة في رفع الغطاء عن الآفات السرطانية التي تتآكل ركائز البيت العربي السعيد وتمسخ وجود أفراده كما هو الحال في قصص : ”
القادم الجديد ” حيث تضيع حياة ومستقبل البنت الكبيرة بلا رحمة بسبب إنشغال الأبوين بالتكثير ” الأرنبي ” الذي تقع مسؤولية إعالته على كاهلها ( هي المستغلة تأتي بالعلف اليومي لها وللآخرين – ص 29 ) . ورغم ذلك يوافق الأب على خطبة أختها الصغرى خلافا للمعايير الإجتماعية المرعية التي يتلاعب بها دعاتها المنافقون حسب أهوائهم ومصالحهم .
وكذلك في قصة ( وفاة دودة ) التي تقيم فيها القاصة مقابلة رمزية رائعة بين معضلة نبتة البيت التي بدأت تحتضر بفعل دودة كانت تقضمها ، وبين محنة إبنة العائلة التي تزوجت واغتربت وتعاني الأمرين من معاملة أم زوجها . كل ذلك يتم عبر حركات متوازية بين الدودة التي تعود بعد قتلها لتلتهم أوراق النبتة الخضراء ، ورسائل البنت المتكررة التي تخبر عائلتها فيها بأن لا حل لمعضلتها وأنها في طريقها إلى الهلاك . دودتان .. لا فرق بينهما حتى لو كانت الأخرى قد نفخ الله فيها من روحه للأسف . وفي نهاية عدوانية متشفية ترتاح العائلة من هم المراقبة وحسرة الإحباط عندما تقتله النبتة نهائيا ، مثلما ترتاح البنت بموت أم زوجها ( سطعت الشمس على الشرفة ، ولمعت المزروعات الريّانة مزهوة بنضارتها ، والزهور الملونة ترفع أعناقها شاكرة – ص 57 ) . وفي قصة ( كان وكان وكان ) تلتقط مأزق بطلتها مع حبيبها الذي يربك علاقتهما حد القطيعة بسبب ضبابية أفعاله التي ألهبت الشكوك في نفسها . وعلى المسار المكمل – الغربة في الخارج ، خارج الوطن – تقلّب القاصة ، وباقتدار ، هذه المحنة على وجوهها المختلفة في قصص : ” الشعر المستعار ” ، ” بيت رابع ” و ” مفتاح الباب الحديدي ” .
في الختام أقول أنه صحيح أن المبدعة ديزي الأمير قد كتبت نصوصها هذه عن تجارب قد تكون عاشتها شخصيا ، أو عايشتها ، أو ابتكرتها ، إلا أنها قدمت نصوصا تعد أنموذجا في كتابة ما أسميته من قبل ” البساطة المركبة ” . وهي في هذه النصوص تقدم – وقبل أكثر من أربعين عاما – وصفات نفسية قصصية علاجية لنا .. نحن المُعذبين في أرض الغربة والإغتراب .

أحدث المقالات