23 ديسمبر، 2024 2:03 م

بلدي سحابة أينما نزلت تمطر حباً ..

بلدي سحابة أينما نزلت تمطر حباً ..

هناك محتضناً نهريه بجريانهما المتعثر والمنحدر الى لامستقر ،على دكة هادئة ، وقد وخط الشيب ذوائبه  ، بوجهه الذي دافته الريح المستمرة  وعجنته التربة  بوهج الشمس  وحبات المطر والدماء  ، بملامح تشبه الرب  ، يجلس العراق .
  عمنا الكبير ، صديقنا ، الذي  لاويناه بالأذرع والأيادي يوم كان العيش فيه هادئاً ومسترخياً وهواؤه عذباً   مثل جدول رقراق ، لعبنا معه كرة القماش  عند عطفة الشارع القريب وقت تقلبات لهب  الطفولة  ، تحت سماواته المستيقظة ، وروحه المفتونة ، ركبنا معه  الخيول قرب مراجيحه وبين ربوع بساتينه وأحببنا بزهو  ألتفاتة  أبنة الجيران وظفائرها المنسدلة حول الكتفين  ، تارة يرتدي بنطلونه ويضع منديلاً منبتاً عند جيب الصدر،  وزهرة تشبه اللوز المبلل  الذي تخلفه في الحلق أغنية ، يظهر لنا بسمات آلهة غيومها محبة وأميراً بطباع الأمراء وسحرهم الغامض  ، وتارة يرتدي عقاله   وكوفيته  المنقطة أو سدارته  ، يدخل معنا مطمئناً لكي لاتزيغ قلوبنا قاعة الأمتحان الرطبة وينتظرنا بأبتسامة مودة  ، مصغياً لضحكاتنا . يصحبنا في جولاته عبر شوارعه الهادئة الخضراء  تحت ظلال السعف المغبر وأكاليل الصفصاف بين عرائش العنب وهي  تتدلى فوق الحيطان وبين أوراق الليمون والأبواب المفتوحة وحدائق الصيف ، بين جباله العالية وبحيراته .
  أمتلأت أخيلتنا في حضرته بهواجس الدنيا الجديدة  المستنشقة ، في أمتع لحظات جمالها ، كأنما تفوح منه روائح ملونة من جنة بعيدة ، وحضنه دوماً  يفيض بالثمار في مواقيت صلاتها  ، التفاح الأبيض والرمان المشقوق وحبات الأنكدنيا والتكي والنبق والرارنج ،   خلال جيل من سنواته العاصفة المتلاطمة  ونيرانه المستوحدة  في أعالي الجبال  وأرضه المليئة بالرجال الميتين ، لم نره راكعاً أمام أحد وغزاته رأيناهم مطرودين بقرون منكسرة    ، رفعنا راياتنا لسلامة أرضه وجرفيه  ونقاء سمائه    ، وغادرنا حبه مكرهين ، متضورين ، لأنه كان جائعاً ، معاناته مثل معاناتنا ،   ولبس مثلنا يوماً الأسمال والمستعمل والمعاد ،  وكدنا نأكل على أديمه أكوام زبالتنا فمنعنا على  بساط قامته حتى من هواء الدنيا النقي  وقد لوثت  هواءه وجنباته وجروحه وأسراره القدسية  جحافل برابرة   قدموا  في غفلة من زمن  ، وصاروا يقدمون  في كل مرة بصورة أوبغيرها  كغيوم مشؤومة ويتناسخون بأشكال ثانية في أزمان أخرى ولبوس وروائح جديدة   ، أستبدل الناس يوماً حبه بالمسلح الذي بسط قبضته وكانت الهتافات القلبية والأرواح الفادية  تتحول أمام نواظرنا    ورغم أرادتنا شيئاً فشيئاً  لعيون القوي المسيطر فضاقت في وجهتنا الطرق وتباعدت بيننا الدروب ، وحين أبتعدنا عنه كعصافير تبحث عن نسمات لاجئة  ، بكى علينا وبكينا عليه . حينما تركناه كان كل نهير من أنهاره أينما أتجه يذرف الدموع ،  هل تمنى لنا حظاً سعيداً ؟ كنا نشعر أن نجاته بنجاتنا وكانت تعيدنا دموعنا اليه صبح مساء فلم نستطع أستبداله بمنفى ، ولا لغته بلغة أخرى  ،أحياناً ينسى وأحياناً يكذب و يتذكر  لكنه دوماً معنا في  حلاوة ماذقناه  من حياتنا  ومرارة علقمها أيام الفراق ، في صلواتنا وسهونا وخطيئاتنا    ،   يعرفنا  مثلما  يعرف الله مخلوقاته بخيرها وشرها وعنادها  وأبتهالها  ومنه تعلمنا  التناسي والصفح   والغفران ، فكر الرب مرة أن كان لايمنع الموت  فليوهب الحياة ،  فكنا  نراه في المحطات  والموانئ البعيدة وعلى السواحل والجبال المضببة بالغيوم وفوق العشب مثل تعويذة سحرية  تلاحقك أينما حللت ، وبعض الأحيان مثل طوق حديدي  يمسك  الخاصرة   ،  ، كان يمد يده ليصافحنا في  المطارات ويمر معنا كل يوم في غربتنا عبر المفاوز ومفارق الطرق وليالي التوهان وأبتساماتنا الحزينة ،  فنستمد القوة لمقارعة النهار قبل أمتزاجه بعتمة  ليل المنفى  المطبقة وأجنحتنا تصطفق  ، وتأسرنا الشفاه التي  نطقت بأسمه كأنه يعيش بين ضلوعنا ، ومتعة حبه لاتضاهيها الا لذة الحك في جلدة مجْرَبٍ ، فأننا  معه دائماً نتذكر الحياة  ، وذكرياته جعلت كل شيء ثقيلٍ  محتملاً ، رغم أنه صار ينأى بعيداً   ومهما أتيت اليه فلن تصله أبداً .  لم ولم يكن يوماً جلاداً لأبنائه ، فكيف أكتسحت مقابره نصف تربته ؟ وحينما ينسى العراق من أحبوه  لايجدون غير الصمت والأنتظار والسكوت لكنهم لم ينسوا  أسمه يوماً واحداً أينما كانوا وأينما وجدوا ، تعلمنا  على أرضه الكتابة ونقشنا أسماءنا على حيطانه  بفحم المدافيء وألوان الطباشير  والمحبة ، وعرفنا المعاني في  رسائل العشق ، وأجتزنا طريق الحكايات    ، كتبنا  له أو عليه ،فلم يسجل ماخطت أقلامنا أوحتى  شيئاً  مما كتبناه  في  سجل تأريخه الحافل  الضخم  ، وعندما  سنأتي  لنعرف  أسماءنا في كتاب يمينه   سوف نجدهم  قد أمحوا وشطبوا   كل الصفحات من دفاتر نفوسنا  كأنها كتبت فوق بادية أو تلاشت في يوم رذاذ ، ولم يتدارك  هو  ليلحقنا  بعربات قطاراته العارية   التي  غزتها جحافل  أخرى كل همها  وغاياتها    أن  تسرق القافلة وتنزل في المحطة القادمة ، ولما تنتهي  اللعبة ويحصل  كل واحد على غنيمته  سنجده مرة أخرى هناك بعد الخراب ، مبحراً فوق الزمن ،  وحيداً وخالداً  ، جالسا أو مفترشاً السحاب يندب أبناءه، أرامله ويتاماه  حيناً ويفكر حيناً أو يتنهد ،تصطف على جانبيه ملائكة وطيور ،  محاطاً بالعناقيد الخضر والأرغفة البيضاء ، على ضفتي أحد   نهريه اللذين نزفا  سيولآً  قانية  ، محدقاً في السهول المتسعة أمامه بلاحدود  وفسحة الوديان ، وقد أدار وجهه ناحية الغروب ، برصانة  شيخ  وجنان طفل ، بشعره الأبيض المتوهج تحت الضياء ،   بعد أن عصفت براياته الرياح ، وأناخت بحمل كتفيه  الأيام ، شاحباً وأعزل    الا  من الذين  أحبوه وأخلصوا لوفائه  وعاهدوا أنفسهم بصدق  أن  لايتخلوا عن أرضه الأقدم والأجمل ، ضامئين الى  شمسه المحترقة  وأشجاره الراقصة التي لاتموت ، قمره الأزرق وسمائه المليئة  بالنجوم   ، يأتون الى جواره  أملاً في نعيم بركته  ، سعداء أن يكونوا  برفقته ،   مهما  فعلت وأبعدت بينه وبينهم الأيام . اليوم وغداً والى الأبد .