عفواً سيدي العراق أعذر جرأتي على إزعاجك بصوتي الخافت الذي لا أعرف هل يمكن أن يستطيل ليصل مسامعك – التي تتزاحم عندها ملايين الأصوات الفقيرة – أم أنه سيضيع و يتلاشى ويتماهى وسط ضوضاء الشكاوى و نحيب الثكالى و عتاب اليتامى , أنا اعلم إن دموعك سيول لا تتوقف تسقي بها الآمال الضائعة و تواسي بها عيوننا التي نضبت في محاجرها الأحلام , و لكني تعلمت أن لا انحني و لا أمد يدي متسولا إلا لله .
نعم يا سيدي العراق لقد ضاقت بي حدود صبري و نفذت من جعبتي كل الأعذار التي كنت أسوقها لأطفالي لأجعلهم يؤجلوا مطالبهم المتراكمة الى زمن لم يحن أوانه بعد , كما تصحرت غرفتي من أثاثها , و أزدحمت بسكانها … حتى أبيحت أسرار أنفاسنا , لم يعد لي ما اعرضه للبيع سوى شهادة معلقة على جدار عمري أعترف أنها لم تكن هدف لي بذاتها و لكنها كانت ملجئ للهروب من طاحونة حروب لطاغيةٍ أكل نصف أعمارنا على مائدة تهوراته و يبس نصف أرواحنا الأخر على رصيف الانتظار , أربع سنوات مغمسة بالجوع و الحاجة و دعوات أمي و أحلام أبي سبقتها سنوات عجاف كان أهلي فيها يقتسمون لقمتهم ليوفروا لي قدراً من الحياة الجامعية لأحصل في النهاية على شهادة لم يخطر في بالي يوماً أنها ستكون مصدراً دائماً لبؤسي و تعاستي ,
لست استنكفَ أن أعمل أي عملٍ كان مادام لا يخرج عن دائرة الشرف و يحفظ لي ما تبقى من عزة نفسٍ لم تسكب على أعتاب الواسطات و الرشاوى فانا ابنك ياعراق كانت طفولتي كما تعلم ككل طفولات العالم الأخر المنسي بنكهة عراقية لاذعة , فبين عسكرة الطفولة و الأب الغائب في الجبهة و أناشيد الحرب و صور المعركة و قصص جيراننا عن الإعدامات , و دموع أمي التي كانت تعجن بها جوعنا لتخبز للجيران أرغفة الشبع لتبقينا على قيد العراق .كانت طفولتي .
تعلمت أن أعمل منذ نمت أظفاري في الطين و تشققت اقدامي كأرض يابسة جففتها رياح الصحراء , فالعمل حياتي و عندما أتوقف عنه أعلم انه يوم وفاتي ,
و لكن لِمَ لم يقل لي أحد أن سنين عمري التي قضيتها في الدراسة و السهر كانت عبثاً ؟ لم لم تقل لي ياعراق أن الأحلام في سمائك مجرد سراب و إن إنتظار الثمار اليانعة من بذور نثرناها في ترابك محض أوهام ؟ لماذا تركتني الهث بلا فائدة و أركض بلا جدوى و أعاني السنوات من اجل ورقة ؟ حتى أن أحرقتها لا تقي أبنائي برد شتائك ؟ و لا تمسح العرق الذليل عن جبيني الهارب من عيون الدائنين . و لا تصلح أن تكون بديل عن أخر قطعة ذهبية شيعتها عيون زوجتي الدامعة و كأنها تودع أبناً لن تراه ابداً .
و ما أكثر ما تشيعه دموعنا على ترابك حتى باتت أرضك تقطف رؤوسنا قبل أن تكون قد أينعت و حان قطافها , فحجاج اليوم لاوقت لديه يقضيه في الانتظار و مفخخاته تحصد الاعمار .لم أرى بلداً يأكل أبنائه كما تأكل أنت ياعراق و كأنك منذ الأزل فيك نهم لا يرتوي لأجساد رجالٍ , لم يحن موعد رحيلهم بعد ,
متى ترتوي ياعراق ؟ و العطش فيك مرض مزمن متى تشبع و الجوع داءٌ أورثتهُ لأبنائك لا يشفون منه ماداموا يحبونك , فمن شبع على أرضك يا عراق …
إعلم انه شفي من مرض عشقك أو سكن في قلبه وطن أخر ,
عذراً سيدي العراق لشقشقة عرضت لي عندما سمعت ان هناك من يشتري أي شيء على ترابك و انا لم يعد في خزانتي المتحجرة أي شيء له قيمة الا هذه الورقة
فهل هناك من يشتري ؟؟؟