23 ديسمبر، 2024 1:41 ص

بقعة الحبر السعودية

بقعة الحبر السعودية

منذ أكثر من مئة سنة والملك عبد العزيز الأب مؤسس مملكة آل سعود التي عرفت بعده بالمملكة العربية السعودية وأولاده وأحفاده يتبادلون زعامتها في نظام توريثي سار في بداياته بشكل منتظم يكون الملك الأخ الأكبر وولي عهده من يليه ثم تم خرق هذه التراتبية تدريجيا حتى وصلت إلى أوج درجات خرقها في زمن الملك الحالي سلمان بن عبد العزيز الذي عزل ولي العهد مقرن بن عبد العزيز ونصب أبنه الشاب الثلاثيني سادس أولاد محمد بن سلمان في طقوس مازالت محل جدل كبير.
أستند نظام الحكم هذا في قوته إلى عدة عوامل من أهمها : التحالف الاستراتيجي بين الأسرة الحاكمة والقادة الدينيين في المملكة وعلى رأسهم محمد بن عبد الوهاب الذي تنسب له الوهابية وهي الاتجاه الديني الرئيس في السعودية ،والعلاقات التحالفية المميزة مع الغرب وعلى رأسها المملكة المتحدة سابقا وأمريكا حاليا ،وتماسك عائلي في إطار تقاسم لمغانم السلطة والثروة ،وقبضة حديدة متشددة لمنع أي متنفس للمعارضة أو النشاطات المخالفة لاتجاه المملكة ،اقتصاد وفير سمح للملكة بسخاء أن تمد يدها خارج محيطها وإلى مسافات بعيدة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية عبر آيدلوجيا المال ،والهيمنة على المجموعة الخليجية وتوظيفها في إطار المصلحة السعودية وهي المنطقة الأغنى في العالم بثرواتها الطبيعية ،ونهج خاص في العلاقات الخارجية يقوم على أساس سياسية الاستقطاب والتجاذب.
منذ وصول الملك سلمان بن عبد العزيز للسلطة والذي لم يكن منظره وهيئته وثقافته توحي بما تم عمله وبشكل متسارع، سارت المملكة في طريق جديد يختلف عن النهج السابق بالكثير من معالمه، وقد كان باكورة هذا التوجه تعيين الأبن الشاب محمد بن سلمان ولي للعهد والذي أطاح بخلفه الأمير مقرن بمشهد دراماتيكي ظهر فيه الرجل مرتبكا ومضطرا على شاشة التلفاز ولم يكن متهيئا حتى لارتداء عباءته بالشكل المناسب، وهكذا أمتطى الشاب الطموح والجريء صهوته جواده ليشن غارات متوالية على ثوابت ورواسخ تقليدية وقلاع وطدت أقادمها عميقا منذ عشرات السنين عبر أغطية آيدلوجية واجتماعية ونفوذ مالي وديني.
تمثلت أخطر الغارات التي شنها العهد الجديد في خطوات واسطة لتقليص صلاحية المؤسسة الدينية التي أحكمت قبضتها على المجتمع السعودي لسنين والمسماة بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتضيق دائرة صلاحياتهم ،ثم توسيع دائرة المشاركة السياسية للمرأة ،ثم خطوة أقضت المضاجع والمتمثلة بمنح إجازة السوق للنساء والسماح لهن منفردات بقيادة السيارة ،والحديث عن رفع شرط المحرم في السفر، وتوالت المفاجئات خارجيا وداخليا ،فكان إعلان المواجهة مع قطر وقيادة محور ما زال التجاذب عاليا بين الطرفين فيه ،إذ يتبادل كلا الطرفين الاتهام برغبة الآخر بتغيير الحكم في بلد الآخر فضلا عن تهمة رعاية الإرهاب وتمويله.
كانت الخطوات الداخلية أكثر إثارة وخصوصا ما شهدناه في الأيام الأخيرة من حملة عزل وتوقيف لرموز سياسية وعسكرية ومالية كبيرة في المملكة لم يخطر على بال أحد أن يتقرب لها أحد في يوم ما ،فقد تم عزل كل من : عزل الأمير متعب بن عبد عبد الله من منصب وزير الحرس الوطني وهو ابن الأمير عبد الله وكان مرشحا للعرش و عزل الأمير متعب بن عبد الله من منصب وزير الحرس الوطني وهو ابن الأمير عبد الله وكان مرشحا للعرش ،وأصدرت لجنة مكافحة الفساد طويلة اليد نافذة الأوامر التي يرأسها ولي العهد محمد أوامر توقيف وحجز أموال بحق أحدى عشر شخصية من الأمراء والملوك وأربعة وزراء سابقين وممن أعلن عنهم كل من: (الوليد بن طلال رئيس مجلس إدارة المملكة القابضة، تركي بن عبد الله حاكم منطقة الرياض، خالد التويجري رئيس الديوان الملكي، عادل فقيه وزير الاقتصاد و التخطيط والتخطيط السابق، إبراهيم العساف وزير المالية السابق، بكر بن لادن رئيس مجموعة بن لادن السعودية، محمد الطبيشي رئيس المراسيم الملكية السابق عمرو الدباغ حاكم الهيئة العامة للاستثمار السعودي الوليد الابراهيم مجموعة ام بي سي التلفزيونية خالد الملحم المدير العام للخطوط الجوية السعودية، سعود الدويش رئيس مجلس إدارة شركة الاتصالات السعودية، تركي بن ناصر رئيس هيئة الأرصاد الجوية والبيئة، فهد بن عبد الله بن محمد ال سعود وزير دفاع سابق صالح كامل رجل اعمال ،محمد العمودي رجل اعمال).
في ذات السياق هناك أحداث داخلية أخرى تمثل إضافات تعقيدية للمشهد السعودي منها: اعلان سعد الحريري استقالته من الحكومة بتسجيل تلفزيوني من الرياض وسط تكهنات متضاربة عن مصيره ومنها احتجازه في السعودية، ومقتل الأمير محمد بن مقرن نائب أمير عسير ونجل ولي العهد المقال ومجموعة من الشخصيات في حادث تحطم طائرة غامض ومجهول الأسباب، ووصول صاروخ من جماعة أنصار الله في اليمن وضرب مطار الرياض في إطار المواجهات العسكرية التي تقودها السعودية في اليمن.
في ذات الوقت هناك مسارات أمنية وسياسية واقتصادية ذات طبيعة مختلفة منها : تغيير ظاهري للموقف من الإرهاب وجماعاته خصوصا في سوريا وتبني حملات مواجهة بالتنسيق مع إدارة ترامب ،وفتح نوافذ للتواصل مع الحكومة العراقية وعقد مجلس تنسيقي وعلاقات مع شخصيات من شيعة العراق ،وتصاعد في الصراع مع إيران ومرونة أكبر في اتجاه العلاقة مع إسرائيل قد تصل إلى حد تبادل الزيارات والشراكات المعلن.
في ظل كل هذه المجريات يمكن رسم خلاصات ليست نهائية لكنها يمكن أن تكون نوافذ صالحة لتفكير أعمق وأدق مع انكشاف المزيد من التفاصيل مع مجريات الأيام وتتمثل تلك الخلاصات في: (إن قبضة السلطة الحقيقية في السعودية اليوم بيد محمد بن سلمان ويتجه لإحكامها تدريجيا وأن القادم سيشهد توليه لمنصب الملكية دون الحاجة لانتظار وفاة والده ـ يقوم الشاب الصاعد وبجرأة بتصفية كافة الخصوم الواقعيين والمحتملين وتمثل الحملة الحالية الجولة الأولى يتبعها جولات أكثر جرأة وسوف تقترب إلى رموز ومحطات أكثر ثقلا في السعودية ،يتصاعد النهج الليبرالي في الحكم معه وربما ينهي دور الدين ومؤسساته إلا في الحدود التي تخدم مصالحه في تخادم مشترك ،على الرغم من هذا التوجه لكنه يعتمد الأسلوب الأمني المتشدد والعميق في الإحكام على مجريات الأمور ولا يعني أنه الحريات السياسية ستنطلق قريبا، يتشارك الأمير محمد مع مثاله الأعلى الرئيس دولاند ترامب والمولعان بالغرابة والجرأة والمال وتفرد السلطة في رسم ترتيبات نهائية للملف السوري في مقاربة توافقية واستمرار عملية تقويض للحوثيين في اليمن مع تصاعد في حدة الصراع مع إيران ودخول عميق في استثمارات بأرقام فلكية مع قفزات جريئة في العلاقة مع إسرائيل وترويض ممنهج لقطر وتقارب أكبر مع الإمارات في إطار تصاعد أهمية المال على الأمن ـ تتحرك السعودية باتجاه تشكل سياسي وأمني واجتماعي جديد يقترب كثيرا من الغرب ويحقق الكثير من رغبات التيارات الليبرالية المعارضة في السعودية باستثناء التوسعة الحقيقية للمشاركة في السلطة وتبادلها في اطر دستورية منتظمة وكذلك منافذ الثروة الأساس حيث يبعد أن تتجه الأمور إلى عدالة توزيع وإنما ستكون هناك غارات أشرس لافتراس ثروات تم جمعها لرموز في ظل صمت تخادمي مع السلطة السابقة تحت عنوان مكافحة الفساد ليصعد نجم الشاب الجديد في إطار بروباغاند تتزعمه قناة العربية والعربية الحدث المحدثتان والنوافذ الإعلامية الأخرى المسيرة لهذا الاتجاه، رغم أنها تعرض نفسها كبديل توازن في العلاقة مع العراق إلا أنها لن تقدم للعراق في الإطار الحقيقي امتيازات واقعية سواء على مستوى الأمن أو الاقتصاد بالشكل الذي يجعلها مقدمة على الحلفاء الآخرين ـ لن يكون هناك فرصة لحريات أكبر لشيعة السعودية وسوف يستمر منهج القمع والتضييق بشكل متوازن مازال إيران متصدرة قائمة المواجهة ـ ستكون لبنان ساحة اهتمام ومنطقة تدخل وربما يعاد فتح الجبهات الداخلية فيها إلى درجة حرب جديدة).
لا يتوقف الأمر عند هذه الخلاصات فهناك عشرات التوقعات المرتبطة بهذه المجريات إلا أن الأهم من ذلك كله هو بروز سؤال مصيري مفاده: “هل تتجه السعودية بقيادة الشاب محمد بن سلمان إلى مزيد من التمساك والقوة وتجاوز المشكلات الداخلية والخارجية وإلى نموذج ليبرالي يكون أكثر قبولا من محيطه والعالم أم أننا أمام مرحلة من تصاعد الصراع الداخلي فيها وربما تفتت المملكة وتقسيمها في إطار ردات الفعل التي ستكون للخصوم الكبار الذين يطيح بهم الأمير واحدا تلو الآخر وتفرده بالسلطة واعتماده على المقاربة الترامبية كبيرة المجازفة وحدة صراعه مع قطر وإيران؟”، ويتصل بهذا السؤال سؤال آخر ومفاده : “هل أن التغيرات العميقة التي يقوم بها الأمير محمد وخصوصا في الجوانب الاجتماعية والثقافية هي رؤية شخصية منطلقة من مقاربة جديدة له لنموذج سعودي جديد أم أن هناك سقوف حتمها الغرب وأمريكا عليه يتطلب الوصول إليها من أجل استمرار التحالف الاستراتيجي وحماية السعودية وما هي المديات النهائية لهذا التوجه؟”.
مهما كانت التحليلات والتوقعات عميقة فللواقع مفاجئته وأحكامه ولكن يظل هاجس المتخصصين إعطاء ولو صورة أولية لصانع القرار وقادة الرأي في البحث عن الخيارات الاستباقية خصوصا ونحن نتحدث عن مستقبل السعودية الكيان المهم في المنطقة وأثره على بلدنا وخياراتنا القادمة.