عندما تستمر مظاهرات واعتصامات واحتجاجات في بلد ما مع كل ما يرافقها من تهديدات بالزحف مرة وبالرد مرة اخرى فانه لم يعد يكفي القول انها مكفولة دستوريا. ففي كل الاحوال ووفقا لاقيسة اي منطق فان هذه الكفالة لها حدود بعدها ربما يبدأ الطوفان. واذا كان الدستور اتاح حرية التعبير فانه ليس من المنطق في شئ ان تستمر بالتظاهر او الاعتصام او الاحتجاج وما يتبعها من خطب تجييش حماسي وعاطفي دون نتيجة تذكر لمجرد ان ذلك حقا مكفولا. ويصبح الموقف اكثر صعوبة عندما تقول الحكومة انها حققت كذا وكيت وماضية في تحقيق كيت وكذا وما تبقى على البرلمان, وفي المقابل يقول المتظاهرون انهم لم يلمسوا شيئا مما تحقق وسوف لن يلمسوا لانهم “غاسلين ايديهم بسبع شطوط ” فاننا لابد ان نضع ايدينا على قلوبنا ونحن نتامل المشهد الذي بات في بعض منعرجاته وكإنه خرج حتى عن سيطرة العقلاء بمن فيهم كبار المراجع ورجال الدين.
اذن لم يعد ممكنا الركون الى مقولة ان المظاهرات مكفولة دستوريا طالما هي سلمية.. من المؤسف ان نجد من يردد هذا الكلام من مختلف الاطراف الديمقراطية وكأننا نريد ان نباهي الامم بديمقراطيتنا التي تسمح لمظاهرات مستمرة لشهرين ولايزال حبلها على الجرار مرة وعلى الغارب مرة اخرى وتقترب من دخول كتاب غينيس للارقام القياسية في استمرار التظاهرات. واذا اردنا الاقتراب من الحافة الحرجة لما يجري عندنا فاننا نطرح سؤالا بمنتهى الاهمية وهو .. اذا كان الدستور يكفل حق التظاهر ومؤسساته الديمقراطية التي لاوجود لها على ارض الواقع في بلادنا لاسباب وعوامل كثيرة تصونها فهل الدستور يكفل الحرب الاهلية؟
قد تكون الاجابة الجاهزة على سؤالي الاستفزازي لمشاعر الديمقراطيين ممن يؤمنون بحق الشعب في التظاهر حتى ينجز مشروع ماء الرصافة الكبير بانني انطلق من ارضية متشائمة او قد اكون مدفوعا من دولة “ضد قطر او تركيا” في سبيل ان اثبط همة المتظاهرين . اما غير الديمقراطيين فانهم يرون في هذا السؤال مصادرة لحق الناس في تغيير الدستور واسقاط العملية السياسية وكتابة دستور جديد وعملية سياسية جديدة.
نحن هنا اذن في منطقة رمادية لم يتضح فيها الخط الابيض لهؤلاء من الخيط الاسود لاؤلئك في وقت اثبتت الاحداث طوال الشهرين الماضيين وما سبقها على صعيد استمرار وديمومة الازمة السياسية ان كل ما بات يفعله السياسيون هو تصدير ازماتهم البينية الى الشارع وهو ما يعني تحول الخلافات من سياسية الى مجتمعية. من يسيطر على مشاعر الناس واحاسيسهم هم رجال الدين وشيوخ العشائر وليس ابناء الطبقة السياسية. فالطبقة السياسية منقسمة على نفسها مرتين .. على صعيد الحكومة بدانا نشاهد وزراء في الحكومة يتمتعون باجازة اجبارية يتظاهرون ضد الحكومة نفسها. وعلى صعيد البرلمان فهناك “تقاذف” متبادل للكرة على صعيد المطالب بين ما هو ممكن تحقيقه من قبل الحكومة وما لايمكن تطبيقه الا عبر البرلمان. ومع ذلك لا الحكومة قادرة على اقناع البرلمان ولا البرلمان قادر على اقناع الحكومة. ولا احد قادر على اقناع الشيخ علي الحاتم السليمان ان ينزل .. من بغلته.