حين كنا صغارا , نفرح بالمطر , نلعب تحت وابله وطله , ورثنا الفرح بزخاته عن ابائنا واجدادنا وهم يرمقون السماء ويلهجون : اللهم زد وبارك , فمطرك رحمة للعالمين , تطهر به الارض , وتنمي به الزرع , وتروي به العطاشى من عبادك وخلقك .
ما اكثر الشعراء الذين رسموا ابهى الصور للمطر , واثروا من موسيقاه ومنظره مخيالهم الشعري حتى جعلوا للمطر نشيدا , وخاطبوه يعرضون عليه ربيع دنياهم ودبيب الحياة في رميم موتاهم بفضل وابله :
وجئت يامطر ,
تفجرتَ , تنثّك السماءُ والغيوم ,
وشقّق الصخر ,
وفاض من هباتك الفراتُ واعتكر ,
وهبّت القبور , هزّ موتَها وقام
وصاحت العظام :
تبارك الاله , واهبُ الدم المطر ,
فآه يامطر .
( السياب , من قصيدة مدينة السندباد )
بغداد لم تعد تغسل وجهها بالمطر , لا لكره منها اياه , ولا لغنى في نفسها عنه ولكن بات غسيل المجاري فيها يلاعب ناصيتها ويعبث بشعرها , شوارعها غرقى وازقتها طافية طافحة , ولسان حال اهلها : اللهم امنع عنا قطر السماء .
بغداد واهلها , لم يعودوا يحرصون على الطرب بموسيقى المطر وهم يكتشفون سر غرق مدينتهم , يد تعبث بمجاريها فتسدها عمدا بالصخر والحجر , ويد توقف مكائن تصريف المياه , ويد تقطع التيار الكهربائي , ويد تسرق المال العام الذي ارصد لمشاريع البناء , ونواب فاسدون يقفون سدا بوجه تاهيل البنية التحتية بلا ضمير ولا شرف ولا دين ولا وطنية , فيما هم يقبضون ملايين الدنانير رواتب لعضويتهم في البرلمان .
الفلبين اليوم تعيش كارثة اعصار قاتل – كفانا الله شره – , والولايات المتحدة تعيش اعصار زادت سرعة الرياح فيه على ثلاثمائة كيلو متر في الساعة فخلف في دقائق الموت والدمار في عدد من الولايات , وعاشت اندنوسيا واليابان تسونامي لم يمر بها خلال اكثر من قرن , وكل هذه الدول تتعايش مع الكوارث ولها خطط للطواريء , وبغداد وعموم العراق لم يمر به ما مر بها لكن الفرق بننا وبينهم , انك لا تعثر على فلبيني او امريكي او ياباني او اندنوسي سد مجاري تصريف المياه بالحجر والصخور عامدا ليؤلب الناس على الحكومة , ولا تعثر على حزب او مسؤول يتخذ من الكوارث دعاية سياسية , بينما نعيش في العراق الاعتياش على الكوارث والازمات والارهاب والفساد , فهل يوجد في العالم انذل من بعض الذين يعيشون بيننا ؟ .
بغداد لم تعد حريصة ان يغسل وجهها المطر بقدر ما هي تستغيث لانقاذها من الغرق .