كنا نحلم في طفولتنا بتلك الزيارة الى مدينة الموصل التي تبعد عن قريتنا حوالي اربعين كيلو متر وكنا ننتظر مثل هذه الزيارات بلهفة وفرحة كبيرة لايمكن وصفها حتى ان الكثير منا كان لا يستطيع ان ينام في تلك الليلة التي يبلغونه اهله فيها بالذهاب معهم الى المدينة وكان ينتظر ساعات الصباح ليذهب معهم بوسائل المواصلات في حينها ويعتبر باص الخشب هو سيد وسائط النقل انذاك لان السيارات الصغيرة كانت بأعداد قليلة جدا فكان اللجوء الى ذلك الباص هو الانسب من ناحية الاجور المنخفضة وكذلك سعته الكبيرة على احتواء كل حاجيات ومشتريات الركاب وكذلك وجود الحوض الخلفي المخصص للمواشي التي يقوم ابناء الريف ببيعها الى المدينة او شرائها من هناك وما ان يصل الباص ويدخل في اسواق المدينة نشاهد هناك عالم اخر… عالم مختلف تماما عن عالم القرية فضجيج السيارات واصوات البائعين ورائحه الكباب تنبعث من هنا وهناك والحاجات التي تغزو الاسواق بكل اصنافها وانواعها اضافة الى المباني العامة وطرازها العمراني والشوارع فكل شيء مختلف عن القرية الصغيرة التي نعيش فيها والتي لم يتجاوز تعداد منازلها الثلاثين منزل…
انتهت مرحلة الطفولة وما ان دخلنا في مرحلة الشباب من العمر وبالتحديد سن الثامنة عشر كانت قوانين الدولة تتطلب منا ان نذهب الى مراجعة دائرة التجنيد لتسجيل موقفنا من اداء الخدمة الالزامية فمن كان مستمر في الدوام الدراسي فانه يؤجل عن تأدية هذه الخدمة ومن كان تارك للدراسة فيلتحق فورا الى احد مراكز التدريب ويقومون بتدريبه وبعدها يلتحق بالوحدات العسكرية في الجيش بمختلف صنوفه….
وبما انني كنت طالبا في حينها واذكر انني كنت بحاجة الى اصدار ((وثيقة شهادة الجنسية العراقية)) ولكوني من عائلة لا يوجد قبلي من حصل على هذه الشهادة فكانت الاجراءات تتطلب مني الذهاب الى العاصمة بغداد بعد ان اكمل كافه المعلومات والمستمسكات المطلوبة في مدينة الموصل ويكون اصدار هذه الشهادة من العاصمة بغداد حصرا..
جهزت أمري وتوجهت في المساء مع احد اصدقائي الذي قام بنقلي بدراجته البخارية الى اقرب محطة قطار وكانت موجودة في مركز ناحية الشوره التي تتبعها قريتنا اداريا….
وما ان صعدت الى ذلك القطار الذي كنت اشاهده من الخارج فقط حتى وجدت فيه تلك العربات المريحة وجلست على احد المقاعد وانا انظر من ذلك الشباك المظلل وكانني اعيش في عالم اخر…
في هذه الاثناء التقيت باثنان من اقاربي وهم من اصدقاء الطفولة وكانوا قد التحقوا الى وحداتهم العسكرية والمتواجدة في العاصمة بغداد وكانت فرحتي لا توصف في حينها لانني وجدت من يدلني ويساعدني في انجاز الموضوع الذي انا مسافر من اجله…
وصلنا الى العاصمة بغداد صباحا وذهبنا نحن الثلاثة الى منطقة تسمى(( العلاوي)) وتناولنا وجبة الافطار من احد الباعة المتجولين وهذه المنطقة يوجد فيها الكراج الموحد لكل محافظات العراق..
اوصلوني بعدها الى منطقة تسمى منطقة الكراده حيث يكون فيها مقر مديرية الجنسية العامة وبصراحة كان استقبالهم جيد جدا لكل المراجعين ولم نتأخر كثيرا وتم انجاز المعاملة بسرعة وابلغوني ان اراجع الساعة الثانية عشر ظهرا لاستلام شهادة الجنسية العراقية استلمتها وقراتها وكانت فرحتي لا توصف وكانني كسبت شيئا كبيرا…
بعدها وقفت في محطة لنقل الركاب انتظر الباص التابع لمصلحة النقل وصعدت الى منطقة العلاوي لانني قد اتفقت مع اصدقائي ان نلتقي عصرا هناك وكان النقطة الدالة هو جسر للمشاة ويكون لقائنا بالقرب منه وفعلا التقينا في الساعة الرابعة عصرا واتذكر جيدا بائع الموز الذي وقفنا قربه وبدأنا نشتري ونأكل الواحدة تلو الاخرى كوننا محرومين من هذه الفاكهة اللذيذة…
اقترح الاصدقاء ان نجري جولة في العاصمة بغداد وكانت واجهتنا الى منطقة جسر الشهداء حيث يتواجد يوميا هناك اغلب ابناء محافظة نينوى من العسكريين والموظفين الذين يكون عملهم الوظيفي هناك او من الزوار او المراجعين مثلي الى دوائر الدولة…
يوجد في هذه المنطقة مقهى شعبي كبير يقع على نهر دجلة وعندما تجلس لتناول الشاي او احد المشروبات الغازية تسمع صوت الربابة من محل التسجيلات الملاصق للمقهى….شعور ممتع وانت تشاهد اغلب ابناء منطقتك هناك..
وما ان اغربت الشمس عدت مع اصدقائي الى محطة القطار حيث توجهت الى مدينة الموصل وودعتهم وشكرتهم على مرافقتي…
كانت ايام جميلة يفرحنا فيها كل شيء حتى الحصول على شهادة الجنسية العراقية شيء مفرح لأنك سوف تقوم بزيارة العاصمة بغداد وتركب القطار وتأكل الموز وتستمتع بصوت الربابة في مقهى ساحة الشهداء…..