12 أبريل، 2024 6:56 م
Search
Close this search box.

بغداد واربيل : اعتبارات الدستور ووحدة البلاد

Facebook
Twitter
LinkedIn

لا شك ان النصوص المرجعية، سواء كانت سماوية أو وضعية، تخضع للإجتهاد، وأن مدلولاتها عند التطبيق أو التحكيم سوف تتباين حسب إختلاف الأَفهام والمنطلقات والمقاصد. يكون التباين أشد وأعمق عندما تصبح المصالح هي المسطرة التي يقاس عليها النص المرجعي، اما عندما تكون المصالح عدوانية فإن تفسير النص المرجعي يمكن حينها ان يحتمل الأمر وضده تماماً، بكلمات اخرى يمكن ان يكون لونه اسوداً قاتماً عند طرف وابيضاً ناصع البياض عند الخصم أو العدو. في هذه الحالة يصبح اعتماد النص المرجعي معياراً لحل الخلاف مما لا يرتجى معه حق أو منطق وعلى الأطراف المتنازعة ان تلجأ الى بناء توازن مصلحي لا يخل بحقوق احدهما، ومن ثم اسقاطه على النص المرجعي الذي يمكن في العادة إيجاد التفسير الذي يلبي متطلباته، أما إسقاط النص المرجعي على المواقف المتنازعة قبل التوصل الى حل واتفاق، فيراد منه ابقاء الوضع على ما هو عليه وتعميق الشرخ وربما يشي بنية مبيتة للجوء الى خيارات اخرى بعيدا عن الحل والإتفاق.

هذا هو الوضع بين بغداد واربيل. بين الحكومة الإتحادية وحكومة الإقليم. الحاح بغداد على الدستور وفرض تفسيرها واشتراطاتها حسب هذا التفسير يدل على ان العبادي لا يريد حلا في الوقت الحالي. يقال لدواعي انتخابية، الا ان الأمر ابعد من ذلك لأن الكتلة الإنتخابية للعبادي ولحزبه مضمونة ولا أعتقد أنه يعاني من هواجس الخسارة، لإعتبارات التخندق الطائفي الفج الذي يحكم الملعب الإنتخابي اولا ولما تشكله السلطة من نفوذ شرعي أو غير شرعي ثانيا، لهذا فإن وراء تعطيل الحل أهداف أخرى.

ربما، يقول البعض، كان العبادي في انتظار تغيير دراماتيكي لصالحه في الإقليم، يكمل به نصر كركوك ويزيح من خلاله القيادات التاريخية التي لا يفارقها حلم الإستقلال، واستبدالها بقيادات شابة من “الجيل الجديد” المنخرط بشدة في عالم المال والأعمال ويتمتع بوشائج اقتصادية وسياسية متشعبة مع المركز من جانب ومع ايران وأمريكا من جانب آخر، ولا تنتابه حماسة الجيل القديم بخصوص حلم الإستقلال والدولة الكوردية.

يقولون ايضاً ان الإضطرابات الأخيرة التي تركزت في السليمانية وأقضيتها ونواحيها بشكل عام ورئيسي كانت تصب في هذا الإتجاه وتسعى الى خلق وضع مضطرب يستوجب استدعاء القوات الإتحادية، وهذا ما حذر منه بشدة رئيس تحالف الديمقراطية والعدالة، الكتور برهم صالح، حينما قال إن تدخل القوات الإتحادية سيكون له نتائج مدمرة. لهذا رأينا مبادرة سلطات الإقليم الى التعامل بصرامة واللجوء الى القوة المفرطة احيانا لقمع المتظاهرين الذين خرجوا الى الشارع بدوافعهم الخاصة طبعا، ومعاناتهم من جراء الوضع الاقتصادي البائس، وهو وضع تشترك بغداد واربيل في جريرته، بل ان دور بغداد في هذه المعاناة اكبر من اربيل لأنها هي التي قطعت الموازنة منذ اربع سنوات.

لا غرو إذن أن تظهر أخبار الإتصالات بين بغداد وأربيل فجأة على السطح، بعد هدوء الشارع الكوردي وسيطرة القوات الأمنية على الوضع خلال أيام فقط، وكأن العبادي اقتنع ان التعويل على حلفائه في الإقليم لا يجدي نفعاً بسبب استحواذ الحزبين الحاكمين في الإقليم على مصادر القوة والمال وأنها لا تتوانى في استخدامها في الدفاع عن مصالحها ومصالح الإقليم، وهي على كل حال اتصالات لا يرتجي منها المراقبون الوصول إلى نتيجة تنهي القطيعة وتجد الحلول للمشاكل التي أصبحت معمرة بين الطرفين وان العبادي ليس مستعجلا في أمره، فقد سارع إلى تمديد الحضر الجوي على مطاري اربيل والسليمانية، وأوكل الإتصالات إلى اللجان الفنية وعاد مكتبه إلى تكرار الشروط التي لا يمكن القبول بها من قبل الأقليم لأنها، في الواقع، تجرده من فحواه ككيان دستوري شبه مستقل، لهذا يرى المراقبون أن هذه الاتصالات عقيمة يهدف العبادي من ورائها إلى الظهور بمظهر الساعي إلى السلام والوحدة الوطنية أمام الضغوط الدولية التي تطلب منه إنهاء المشكلة.

وربما كانت دوافع العبادي في تأخير الحل والوصول الى تسوية وطنية، وهذا ما أرجحه، ليست محلية مطلقا، ولا يمكن هنا استبعاد دور الحليف الإيراني الذي تقتضي مصلحته إضعاف الإقليم وسد الذرائع امام المكونات الأخرى التي تتطلع إلى إنشاء الأقاليم، لأن من شأن قوة هذه الأقاليم أن تعزز وجود خصومها في الساحة العراقية، سواء كانت امريكا او الأطراف العربية التي تتحين الفرصة للحد من التنمر الإيراني في المنطقة. هكذا نجد ان استحضار العبادي المستمر للدستور كهالة ذات سطوة في أذهان الناس، في احاديثه وترديد المتطلبات التي اقرت بها سلطات الأقليم حسب تفسير المحكمة الاتحادية والعبادي نفسه في أكثر من مناسبة ، اصبحا اسطوانة مشروخة.

مع ذلك اذا نظرنا بإنصاف الى الدستور، وهو النص المرجعي هنا، لرأينا ان الإقليم، مع كل الإتهامات والإدعاءات التي تقذف عليه من بغداد، حكومةً وسياسيين موالين لها أو انتهازيين وخصوم من نافثي نار الفتنة، والتي يمكن تلخيصها بعبارة “ان الإقليم عبارة عن دولة داخل الدولة”، وان العبادي الذي يحلو له التغني كثيرا بالدستور يريد، بالتالي، استعادة الدولة أو فرض هيبتها على الإقليم المتمرد، لرأينا أن الإقليم لم ينتهك الدستور لا من قريب ولا من بعيد، فكل ما يقوم به إنما يجري وفق سلطاته القائمة قبل 2003، والتي أقرها الدستور ووافق على استمرارها منذ عام 2005، بتصويت شعبي على مستوى كل البلد، وصل إلى 80%..

المادة ١١٧/ثانيا مثلاً، تقول نصاً:
اولاً :ـ يقر هذا الدستور، عند نفاذه، اقليم كردستان وسلطاته القائمة، اقليماً اتحادياً.
ثانياً :ـ يقر هذا الدستور، الاقاليم الجديدة التي تؤسس وفقاً لاحكامه.

يلاحظ، عند النظر الى هذه المادة بالعين المجردة والقصد الخالي من الغرض ان اقليم كوردستان يمتاز بوضع خاص وهناك إقرار دستوري واضح لا يقبل اللبس بسلطاته التي كانت قائمة قبل إقرار الدستور، وهي كما هو معروف، كانت سلطات مستقلة تماماً عن بغداد وتُمارس بإطلاق تقريباً بعيدا عنها على كل الأصعدة، وبالذات في المجالات التي تعتبرها بغداد الآن انتهاكاً للدستور مثل استخراج وبيع النفط ومايتعلق بالتجارة الخارجية والمنافذ الحدودية وكذلك قدر تعلق الأمر بالشؤون السياسية والعلاقات الدولية والممثليات الموزعة في مختلف أنحاء العالم. بل وليس لها، أي بغداد، ان تتدخل في سلطات الإقليم القائمة بدليل الفقرة الثانية التي تفيد ان الأقاليم الجديدة هي التي سوف تؤسس وفق احكام الدستور وليس اقليم كوردستان.

ولو سلمنا جدلاً ان اقليم كوردستان يجب ان لا يكون مختلفا عن الأقاليم الجديدة، وهو منطق مقبول ومتوافق مع التوجه العام لمعنى الدولة المركزية، وليست الدولة الإتحادية كما هو شأن الدول الإتحادية القائمة في مختلف مناطق العالم، فإن اقليم كوردستان لم ينتهك الدستور لأن الأرجحية في أي خلاف أو تنازع على السلطات المشتركة بينهما، او السلطات الخاصة الاخرى ما عدا الحصرية منها، تكون لقوانين الإقليم.

تقول المادة المادة (115) من الدستور:
كل ما لم ينص عليه في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية، يكون من صلاحية الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم، والصلاحيات الاخرى المشتركة بين الحكومة الاتحادية والاقاليم، تكون الاولوية فيها لقانون الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم، في حالة الخلاف بينهما.

من كل ما سبق يتضح انه، لا رفع راية الدستور ولا التغني بالحرص على وحدة البلاد، يتحكمان في الخلاف بين بغداد واربيل ويسيِّرانه، وإنما اعتبارات اخرى ربما كان الدستور ووحدة البلاد ابعد ما يكونان عنها .

[email protected]

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب