22 ديسمبر، 2024 5:02 م

بغداد واربيل.. ازمات شائكة وحلول غائبة

بغداد واربيل.. ازمات شائكة وحلول غائبة

يؤشر حراك الشهور القلائل الماضية بين الحكومة العراقية الاتحادية والحكومة المحلية في شمال البلاد الى حقيقة جوهرية ومهمة، تتمثل في ان هناك واقع صعب ومعقد من النواحي السياسية والاقتصادية والامنية يحتم على الطرفين الجلوس المستمر على طاولة البحث والنقاش، وطرح وتفكيك كل الملفات بصورة تفصيلية بأمل التوصل الى حلول وسط، والالتقاء عند نقاط توافقية ان لم يكن ممكنا حسم القضايا العالقة، واغلاق الملفات الشائكة.

 

عقد الخلاف والاختلاف

ولعل المسيرة الطويلة الممتدة لعدة عقود، من الخلافات والصراعات والمؤامرات والحروب بين السلطة المركزية في بغداد والاكراد في الشمال، كرست حالة من انعدام الثقة بين الطرفين، وهذه الحالة بقيت راسخة ومتأصلة حتى بعد الاطاحة بنظام صدام في ربيع عام 2003 ودخول الاكراد كطرف رئيسي في العملية السياسية الديمقراطية وادارة شؤون الدولة بمختلف مفاصلها.

ولعل الخلافات والتقاطعات المستمرة بين بغداد واربيل بشأن توزيع الموارد المالية، وتبعية بعض المدن والمناطق، والتركيبة الديموغرافية لها، وحصة الاكراد من المناصب والمواقع العليا، وحتى وجودهم في هيكلية المؤسسات الامنية والعسكرية، تعد مؤشرات ودلائل واضحة على حجم التعقيدات في العلاقة بين الطرفين، ومازاد الطين بله هو ان انعدام الثقة انسحب الى الدستور الذي تم الاستفتاء عليه واقراره في الخامس عشر من شهر تشرين الاول-اكتوبر من عام 2005، من خلال المادة 140، التي كانت بنظر البعض بمثابة القنبلة الموقوتة والعقبة الكأداء امام أي حل او حلحلة لمشاكل وازمات الماضي، ان لم تكن جاءت لتعميقها وتكريسها.

والملفت ان الحوارات والمباحثات المتواصلة بين بغداد واربيل بدلا من ان تسهم في تقريب وجهات النظر وتجسير الهوة بينهما، كانت غالبا ما تؤدي الى خلط الامور وتعميق المشاكل بدرجة اكبر، وربما اشرت بعض احداث النصف الثاني من عام 2017 الى ان الطريق مازال طويلا لتصفير الخلافات، فبينما اقدمت حكومة الاقليم على اجراء استفتاء شعبي عام لانفصال الاقليم في الخامس والعشرين من شهر ايلول-سبتمبر من العام المذكور، وجه رئيس الوزراء الاسبق حيدر العبادي بعد حوالي اسبوعين برفع العلم العراقي على كل مباني محافظة كركوك المتنازع عليها بعد طرد الاكراد منها واغلاق كل مقراتهم الحزبية.

وفي الوقت الذي وصف رئيس اقليم كردستان السابق وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني في حينه الاستفتاء بالانتصار التأريخي الكبير، ودعا الى استمرار الحوار مع بغداد لحل المشاكل العالقة، ردت الاخيرة بقوة حينما حدد رئيس الوزراء الاسبق حيدر العبادي مهلة 72 ساعة لتسليم مطارات للسلطات الاتحادية، والا يصار الى منع الرحلات الجوية منها واليها، وبالفعل نفذت الحكومة الاتحادية تهديداتها، لتصل الازمة الى ذروتها بأرغام الاكراد على مغادرة كركوك.

ليس هذا فحسب، بل انه منذ اواخر عهد رئيس الوزراء الاسبق نوري المالكي، قررت الحكومة الاتحادية حجب حصة اقليم كردستان من الموازنة الاتحادية بسبب قيام الاخير بتصدير النفط والاستفادة من عائداته دون الرجوع للمركز، وقد افضى ذلك الى تفاقم الازمات الاقتصادية والحياتية لفئات وشرائح واسعة من مواطني الاقليم، وبالتالي اتساع نطاق الخلافات والتقاطعات داخل البيت الكردي، ناهيك عن تزايد حدة السخط والاستياء الشعبي جراء السياسات الخاطئة لحكومة الاقليم واستشراء الفساد في شتى المفاصل والابعاد.

 

اين تكمن المشكلة؟

في واقع الامر، هناك اكثر من بعد في ازمة اقليم كردستان، الاول يرتبط بطبيعة العلاقات مع الحكومة الاتحادية، وهذا كما اشرنا تحكمه تراكمات تأريخية كثيرة واستحقاقات انية مرحلية حرجة، وتتحكم به ظروف ومؤثرات وعوامل مختلفة، سياسية وقانونية واجتماعية، ويمكن للمتابع ان يلمس بوضوح الظلال الثقيلة التي القتها جائحة كورونا والتراجع الحاد في اسعار النفط على العراق عموما واقليم كردستان على وجه الخصوص.

ولعل الخط البياني لتبادل الاتهامات بين الطرفين خلال الشهور القلائل الماضية، عكس عمق المشاكل والازمات، واشر الى غياب افق الحل، بحيث راح البعض يقول بأن تشخيص اسباب الخلافات بين بغداد واربيل باتت تنطبق عليه مقولة(البيض من الدجاجة ام الدجاجة من البيضة).

فالاكراد يؤكدون استعدادهم للالتزام بالدستور والتقيد بالاتفاقيات المبرمة ويتهمون الحكومة الاتحادية بالتنصل عن التزاماتها، وجاء في بيان صدر عن حكومة الاقليم في الثاني عشر من شهر اب-اغسطس الماضي، “إن حكومة إقليم كردستان لم تبق أي مسوغ دستوري أو قانوني أو إداري أو مالي إلا وقدمته خلال المباحثات من أجل التوصل إلى اتفاق، وقد وافق الإقليم على جميع شروط الحكومة الاتحادية في إطار الدستور، غير أن الحكومة الاتحادية، وللأسف، لم تبد ومنذ أكثر من ثلاثة أشهر أي استعداد لإرسال الجزء الذي كانت ترسله من الرواتب، مما أدى إلى عدم تمكن حكومة الإقليم من صرف المستحقات المالية لمن يتقاضون الرواتب، وألقى ذلك بظلاله وآثاره السلبية على الوضع المعيشي بالنسبة لمستحقي الرواتب في خضم الوضع الصحي الشاق الذي يواجهه الإقليم”.

في مقابل ذلك يؤكد بعض المسؤولين في بغداد بأن الاقليم يريد الحصول على حقوقه من المركز دون ان يؤدي الالتزامات المترتبة عليه، في الوقت الذي وجهوا انتقادات حادة لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بعد توجيهه بتحويل جزء من المستحقات المالية للاقليم، اذا صرح النائب الاول لرئيس البرلمان العراقي حسن الكعبي في التاسع عشر من شهر اب-اغسطس الماضي قائلا، ” بأي وجه حق او غطاء قانوني يتم تسليم حكومة كردستان المبالغ الشهرية من دون تدقيق الرقابة المالية وتسليم الايرادات النفطية والايرادات الاخرى المستحصلة في الاقليم الى وزارة المالية الاتحادية بعد انتهاء قانون الموازنة لسنة 2019″، وابدى الكعبي استغرابه من “إجراء محادثات ومباحثات بين حكومة الاقليم وحكومة الكاظمي، انتهت بقرار تم بموجبه تسليم حكومة الاقليم 320 مليار دينار من دون تسليمهم للضرائب والرسوم المستحصلة وموارد المنافذ الحدودية والمطارات وعائدات النفط المصدر الى الحكومة الاتحادية”.

وعلى هذا الايقاع، تتوالى التصريحات المتضاربة من كلا الجانبين بشكل حرب اعلامية وسياسية ساخنة، تغيب عنها اي ملامح للحل او حتى الحلحلة!.

 

رسائل الكاظمي من اربيل

وفي خضم الجدل والسجال الدائر في بغداد واربيل حول سبل واليات احتواء الازمة وتقريب وجهات النظر، وبالتالي تقليص مساحة الخلافات والاختلافات الى اقصى قدر ممكن، قام رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي قبل بضعة ايام بزيارة بدت مفاجئة الى الاقليم، التقى خلالها كبار القيادات الكردية في اربيل والسليمانية وزار معبر ابراهيم الخليل الحدودي مع تركيا وتفقد النازحين في احد المخيمات، والتقى مواطنين من شرائح اجتماعية مختلفة.

ومن الطبيعي جدا ان تتصدر هموم واهتمامات الاكراد، من قبيل تأمين رواتب الموظفين والمتقاعدين، مجمل اللقاءات والاجتماعات، الرسمية منها وغير الرسمية، وكعادته تعاطى الكاظمى يأيجابية واطلق وعودا طيبة للاكراد مقرنا اياها-ولو بصورة ضمنية-بمدى التزام الاكراد بالاستحقاقات المترتبة عليهم.

ولعل وصول الكاظمي الى معبر ابراهيم الخليل واطلاعه على اليات العمل هناك، اريد من ورائه اطلاق رسالة مهمة مفادها ان المعابر الحدودية الواقعة ضمن حدود اقليم كردستان لاتختلف عن المعابر الاخرى، وهي في نهاية الامر لابد ان تخضع لاشراف السلطات الاتحادية.

وهذه الرسالة موجهة الى سلطات الاقليم التي بدا واضحا انها تماطل بل وترفض التخلي عن الاشراف والادارة المباشرة للمعابر والمنافذ الحدودية لصالح بغداد، وموجهة ايضا الى منتقدي الكاظمي الذين يرون ان هناك ازدواجية وكيل بمكيالين في التعاطي مع ملف المنافذ الحدودية.

وفيما يراهن الاكراد على الضغط الاميركي على رئيس الوزراء العراقي لتحقيق المطالب الكردية، لاسيما ما يتعلق بالجوانب المالية، وقد راحوا يتحركون مبكرا من اجل تضمين حصتهم في موازنة العام المقبل.

في مقابل ذلك، يواجه الكاظمي حتى لو اراد ان يكون مرنا مع مطالب اربيل، ضغطا سياسيا كبيرا من خصومه لكي لايقدم المزيد من التنازلات للاكراد قبل ان ينفذوا ما عليهم من التزامات مالية، من خلال بيع النفط والتبادل التجاري من المنافذ الحدودية الخاضعة لسيطرتهم وعموم عائدات الكمارك، وكذلك بعد ان يصار الى اجراء عمليات تدقيق لاعداد الموظفين والمتقاعدين في الاقليم وحذف الاسماء الوهمية والاشخاص الذين يتقاضون اكثر من راتب.

لاشك تبدو الامور معقدة وشائكة، ومن الصعب بمكان حسمها ومعالجتها بصورة مرضية ومقنعة للطرفين، لان المشكلة الاكبر تكمن اولا واخيرا في غياب الثقة، ومادامت هذه المشكلة قائمة فأن التقدم الى الامام في مجمل الملفات يبقى محفوفا بالكثير من المعوقات والعراقيل والعقبات.

———————-

*كاتب وصحافي عراقي