23 ديسمبر، 2024 9:59 ص

بغداد لم تعد في بغداد

بغداد لم تعد في بغداد

عذرا أن ينال قلمي منك وأنتِ الحبيبة الصابرة الشامخة كنخلك العصية كشواطئ قلبك الحنون دجلة ، أ أنتِ بغداد أ أنتِ عمري وعشقي وهمي وجنون شبابي وكحل عيني . بغداد لم اعد أعرفك اسأل عنك ذكرياتي الشاخصات تدير برأسها وتخفي عني دموعها وتتركني حائرا بين صمتي وحزنها. أحملك معي أترنح بثقلكِ خانتني قدماي سقطت ولكن أبقيتكِ على كتفي ، هل أنا شخت وهان العظم مني أم أثقلتك الحواجز الكونكرتية والسيطرات وجزم العسكر والمليارات من السحت الحرام والغرباء الذين يهدونك . أيتها الرشيقة الجميلة الفاتنة الساحرة ماذا حقنوا في جسمك العاطر أحقادهم أوهامهم طائفيتهم عمالتهم، لماذا تكورت وبان على وجهك تعب العشرة العجاف، غافية هاذية تدلت شفتاك وانتفخت أوداجك وتكسرت أهدابك الطويلات وغارت بعيدا عيناك .
((عيناك يا بغداد، منذ طفولتي
   شمسان نائمتان في أهدابي
 لا تنكري وجهي .. فأنت حبيبتي
 وورود مائدتي، وكأس شرابي))*
أغمض عيني لعل أعيد الى نفسي بهجتها وأطوقها بعشق جمالك وأجول في شوارعك شارع الرشيد ارمي جسمي في مقهى أم كلثوم وبصوت خافت اردد مع السيدة هل رأى الحب سكارى مثلنا،أرى الجالسين هائمين بعشقهم وارقب المارة من نافذة المقهى تسري بهم الحياة لا سيارات مفخخة تقطع أجسادهم ولا عبوات ناسفة تبتر أرجلهم ولا صواريخ تقطع رقابهم ، سائرون بإنسانيتهم لا خوف من حضرا للتجوال أو مداهمات أو اهانات من مواكب المسؤولين . ثم يأخذني عشقي إلى المتحف البغدادي وصوت عذب يصدح بقصيدة غناها من مقام الخنبات ليسمعها معروف الرصافي بوقفته الشامخة
((سلامٌ على دار السلام جزيلُ
وعُتبى على أن العتاب طويلُ
فبغدادُ لا أهوى سواكِ مَدينة
ومالي عن أن العراقِ بديلُ))*
عذرا بغداد ثانية لازلت ابحث عنك بين ما بقي  من صور شابها الشحوب من خوفي افقدها فأفقدك ،أنها لكي عندما كنت ترتدي مساءاً فستانك الزاهي الألوان على ضفاف دجلة الخير في أبي نؤاس ، يتعمد النسيم العبق برائحة الأرض والورود أن يرفع أطراف فستانك بحياء فتضحكي ونضحك وندير برأسنا نحو حلقة النار التي تحيط بالسمك المسكوف، لم يكن يدر بخلدنا إن في ليلة ليلاء سيمزق الأوباش فستانك ويغتصبونك ويسكفوا عشاقك والسمك معا ، يا للعار خدامهم من اهلك اشتروا الخيانة بالشرف باعوك بدراهم معدودات لا أربح الله تجارتهم
(( بغداد تصرخ والأعراب يشغلها         حكم العبيد بعيد العزّ والكرمِ
 يا روح دجلة للأرواح مالكةٌ            تبكي عليك عيونٌ قلّ ما تنمِ
 تبكي عليك عيونٌ غاب بؤبؤها        وذي سيوفٌ لطعم الطعن تلتهمِ
 تبكي عليك عيونٌ ذبن من أرقٍ        وبي عذابٌ بريح الغدر من دَلَمِ
 فالذلّ يظهر في الذليل ودّته             وسادة المسلمين الأ عبدُ القُزمِ
 أ غاية الإسلام أن تحفوا شواربكم     وا أمةً ضحكت من جهلها أممِ
 إنا لفي زمنٍ فعل القبيح به              خيرٌ من البيض مثل العذر واللممِ))*

بغداد ألا زلت هنا كما عهدتك أاستفقت من غيبوبتك، اصرخي قولي شيئا اشتمينا ارجمينا أبصقي في وجوهنا هذا حقك علينا انشغلنا بتوافهنا بأموالنا بفسادنا بنفاقنا بأحزابنا بكتلنا بطوائفنا ، جعلناك تشخين وتشيخ معك أيامنا وأحلامنا ، ضاقت شوارعك برعونتنا وأغرقناك بمخلفاتنا وقطعنا أوصالك بأحقادنا، أعداءك سرقوا شواطئكِ ونهبوا نخيلك وشردوا أبناءك واستولوا على تاريخك فجروا قبابك واستباحوا أثاركِ  أفقدوك ملامحك الجميلة فاستطلتِ وعرضتِ ونفختِ و تقزمتِ.
(( فماذا جرى للأرض حتى تبدَّلتْ      بحيث استوَتْ وديانُها وشِعافُها
وماذا جرى للأرض حتى تلوَّثت     إلى حدّ في الأرحام ضجَّتْ نِطافُها
وماذا جرى للأرض.. كانت عزيزةً      فهانتْ غَواليها، ودانت طِرافُها
سلامٌ على بغداد.. شاخَتْ من الأسى       شناشيلُها.. أبلامُها.. وقِفافُها
وشاخت شواطيها، وشاخت قبابُها     وشاخت لفرط الهمِّ حتى سُلافُها))*
أصبح هاجسي البحث عن بغداد التي لم تعد في بغداد

* أبيات من قصيدة للشاعر نزار القباني
* أبيات للشاعر خضر الطائي غناها مطرب العراق الأول محمد القبانجي
 *أبيات من قصيدة للشاعر أبو الطيب المتنبي
* أبيات من قصيدة للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد