عصّية على الغرباء. أبوابها طلاسم وشوارعها أوردة تمتد من قلبها الى أفئدة أهليها. حين أعيت مغتصبها لم يجد أمامه سوى تكبيلها بكتل الاسمنت كي يفصل بين أضلاعها. ولم يجد سوى ان يفصل بين لياليها ونهاراتها. هكذا فعل المارينز حين أرعبه شمم بغداد وإباء بغداد وعزة بغداد وأصالة بغداد. وهكذا فعل أيتام المارينز الذين خلفهّم واقفين على أسوارها، مستلين سكاكينهم ليقطعوا أوصالها ما أستطاعوا وما ملكوا من كتل الاسمنت وغرابيل الاقمار الناعسة في سماواتها.
عشر أعوام وبغداد تئن تحت ثقل كتل الاسمنت وبساطير السيطرات “الفضائية”. عشر أعوام وبغداد تحن لليلها الزاخر بأسرار العشاق وعطر النارنج. عشر أعوام وعيون الجند توزع الريبة بين سكان بغداد كلما خرجوا أو عادوا لبيوتاتهم. عشر أعوام عجاف.
ليس قرارعودة الحياة الى ليل بغداد سوى إعادة جزء من حق المدينة الثكلى ورفع بعض الحيف عنها. أعراس البغداديين منذ أول لحظات رفع الحظر تحت جدائل مدينتهم تستدعي المضي في السير على طريق رفع جميع التجاوزات عن ظهر المدينة. السيطرات لا فائدة لها سوى خلق المزيد من الاختناقات، ومبرر إستمرار وجودها الوحيد هو تسويق فرية أجهزة السونار التي عرف العالم بأجمعه بانها محض لعبة أطفال. وكتل الاسمنت لا تمنع اللصوص من التسلل الى أقراط المدن وخواتمها ولا تمنع إختراق أصحاب اللحى القذرة القادمين من كهوف التاريخ وهم مزنرون بالاحزمة الناسفة التي تحمل الموت المجاني لمقاهي الفقراء وأسواقهم ومساجدهم ومدارس أبنائهم، لكنها تفصل بين الحبيب وحبيبته وبين الشقيق وشقيقه، انها حارس يقظ مهمته إبقاء شعلة الطائفية مستعرة، وكلما خمدت سقاها زيتا وبارود.
من وضع هذه الكتل الاسمنتية القميئة يعلم انه انما يقطعّ تاريخ المدينة. ومن وضع السيطرات “الفضائية” يعلم انه يقطعّ أوصال الألفة بين الأحياء أيضا. وفي الحالين، لم يعد ثمة مبرر لتلك الكتل أو تلك السيطرات. والاحترازات الأمنية في كل مدن العالم تعتمد على آخر ما أنتجه العقل البشري من تكنلوجيا المعلومات. ملايين الكاميرات في لندن وباريس وبون، فلماذا لاتكون لبغداد حصتها من هذه الكاميرات أيضا؟.
العبادي البغدادي الكرادي يعرف مزاج بغداد وغنجها. ويعلم أن أحياء بغداد تهيم بالورد والنخيل ولا تحبذ الاسلحة. لذا، كان قراره بنزع الأسلحة عن كرادتها وكاظميّتها وأعظميّتها ومنصورها وسيديتّها. والمطلوب الآن إستكمال القرار بنزع السلاح عن بقية أحياءها. فمن يدخل الأسلحة والموت لتلك الاحياء هم ذاتهم من سرق عن شفاه العراق بسمته، وهم ذاتهم من نهب ثرواته ويتم أطفاله ورمّل نسائه. رثاثتهم لا تخفيها قمصانهم البيضاء وسياراتهم الفارهة المضللة، وهم يحكمون باسم الشعب ويسرقون باسم الشعب ويقتلون أبناء الشعب باسم الشعب.. أيضا. مطلوب نزع الهيبة الواهية عن مواكب هؤلاء، بل تحريم تلك المواكب المكونة من سيارات جرارة ومرافقون لايبدون أي احترام للناس وللشوارع.
القرار الصائب والجرىء يستوجب قرارات اخرى. فوضى أرقام السيارات التي يوظفها القتلة لتمرير جرائمهم، لا تحتاج من أجل ان تنظم، سوى لقرار إداري بتوحيدها وتنظيم قاعدة بيانات مالكيها، حينها سيحسب القتلة الف حساب قبل تفجير السيارة التي ستدل الأجزاء المتبقية منها ،وبضمنها الأرقام، على صاحبها، وبالتالي سيكون طرفا في ذلك التفجير.
البطاقة العائلية الموحدة قرار آخر على العبادي ان يلتفت اليه وسريعا، من أجل أن يقي العباد مذلة التشكيك بالوثائق الأربعة ومشقة إصدار صحة صدور تلك الوثائق. وأذكرّه، ان سراق قوت الشعب أنجزوا طباعة ملايين البطاقات الانتخابية خلال زمن قياسي وبتقنية عالية يصعب تزويرها، لان الانتخابات وسيلتهم لتسلق المناصب وبقائهم جاثمين على صدر الوطن، لكنهم لم يطبعوا الهوية الموحدة لانها تخدم الشعب وتقلص فرص التزوير التي يعتاشون عليها.
بغداد تفرد الآن جدائلها وهي تستحق الأكثر.. لانها مدينة الله.