22 ديسمبر، 2024 10:40 م

ذكرى مرور أربعون عاماً على مجزرة قاعة الخلد
في العام ١٩٧٩ كنت طالباً في مرحلة الخامس الأدبي في أعدادية بعقوبة المركزية ، كانت الملاحقات السياسية ( الأمنية ) في أوج ضرامتها بطشاً بالشيوعيين وأصدقائهم في عموم العراق . في يومها شاعت الاخبار في بغداد وعموم المحافظات العراقية بنبأ وقوع مؤامرة أبطالها قادة ميامين في حزب البعث ضد رفاقهم في الفكر والمصير . أنتشرت كسرعة البرق وباتت حديث يومي في البيوت العراقية مع سيل من التسريبات المبالغ بها . وقد مضى عليها دهراً من الزمن على مستوى الحدث والصدى , ومازالت قاعة الخلد في بغداد تشكل مفترقاً تاريخياً في الحدث السياسي العراقي , كل الذين أباحوا بوقع الحدث وآماطوا اللثام عن تفاصيل ذلك اليوم في تلك القاعة والتي شهدت تلك الكوميديا السوداء ، وهي القاعة التي عدت خصيصاً للعروض المسرحية والمهرجانات السياسية ، لكن خلدها النائب والذي أصبح رئيساً للبلاد بمجزرة الدم . والذين نجوا وهم قلة من مسرحية المؤامرة المزعومة لم يكشفوا عن التفاصيل الحقيقية والدوافع وراء ذلك الاجتماع والتصفيات بحق رفاق الآمس .

الرئيس الجديد والنائب السابق للأب القائد ، الاب الذي تنازل عن مقاليد السلطه لنائبه في مشهد تلفزيوني بائس كسعف النخيل الذي سقط بعد أن يبس . الرئيس الجديد صدام حسين يتابع شخصياً المشاهد والأدوار قبل العرض المسرحي من خلال أشرافه المباشر والسريع على التأليف وألاخراج . العراقيين يتناقلون أخبار العرض المسرحي ( أنها مؤامرة ) بتعاطف مبالغ به مع الرئيس الجديد ودموعه التي ذرفت بغزارة من على مسرح قاعة الخلد مع سيل من الهتافات من قبل المدعوون ( المذنبون ) للعرض المسرحي بعد أن أنتابتهم نوبة الخوف من ألصاق التهمة بهم . المشهد الدراماتيكي في أعترافات الشمري المثيرة للجدل والسخرية تشكل نقطة تحول في مسيرة حزب البعث نحو السقوط التدريجي .

بعد تسجيل العرض المسرحي ومونتاجه تم توزيعه على منظمات الحزب في محافظات وقرى العراق لمشاهدة فصوله الكاملة وتسريب فصوله الى الشارع وأشاعته بين الناس ، نحن العراقيين ميالين جداً الى تصديق الاشاعة ونشرها وصعوبة تكذيبها ضمن البناء النفسي للشخصية العراقية ، لقد تسنى لي حين ذلك بالاطلاع على تفاصيل العرض بعد حين ، كان عملاً فاشلاً كاخراج وتأليف وممثلين وحتى الكومبارس الذي مثله علي حسن المجيد حول دور عبد الخالق السامرائي في الإيحاء للرفاق ( المتآمرين ) عبر زنزانته المعزول بها عن العالم الخارجي منذ ستة أعوام ، والذي يعد من مفكري الحزب ولزهده ونزاهته أطلق عليه الملا من قبل رفاقه . في ليلة وضحاها تحول عتاة قادة حزب البعث من مناضلين الى متأمرين ، وقالت التجارب أن العمل السياسي في العراق يؤدي بك في النهاية الى الموت ، ومن خلال تاريخ العراق كل الذين حكموه قتلوا من خلفاء وأمراء وملوك ورؤساء .

محمد عايش ، محمد محجوب ، غانم عبد الجليل ، عدنان الحمداني ، محيي عبد الحسين المشهدي ، مرتضى الحديثي ، وليد محمد سيرت ، ماجد عبد الستار السامرائي ، إسماعيل النجار ، والعشرات بعضهم نجا بأعجوبة وظل صامتاً الى يوم رحيل البعث ٢٠٠٣ .

الرئيس الراحل حافظ الأسد طلب من عدنان الحمداني بعدم العودة الى العراق ، وكان حينها في دمشق يتابع الأعلان حول مشروع الميثاق القومي بين العراق وسوريا . قال له الغيوم متلبدة في سماء بغداد وخوفي عليك كبير رفيق عدنان ستكون أحد الضحايا رد عليه بثقة متناهية حول إنجاز المشروع القومي وسأكون رئيس وزراء العراق القادم في عهد الرئيس الجديد . أما محمد عايش الذي أعتقلت زوجته في اليوم الذي أعتقل به وبقيت في حاكمية المخابرات لمدة سبعة سنوات ، وكانت تعتقد أنها إعتقلت بوشاية من زوجها الذي أعدم بنفس يوم إعتقاله ، وعندما قرروا أطلاق سراحها ألتقى بها مدير الحاكمية ، وكانت تدعي على زوجها بغضب فتفاجأت عندما أبلغها المدير أن زوجها أعدم بنفس اليوم الي أعتقلت به بتهمة الخيانة والعمالة للنظام السوري . الرفاق الذين بلغ عددهم خمسة وخمسون شخصاً قيادياً جرجروا الى مبنى حاكمية المخابرات بتهمة التأمر جلهم لم يسبق له الدراية الا في داخل قاعة الخلد من خلال بساطيل الحماية وأحتكاكها في الأرض والبشر والدور البائس الذي إجبر عليه محيي عبد الحسين الشمري ( المشهدي ) وممن أستدعى من سفارات النظام لآمر هام في القدوم الى بغداد ولم يعد .

مبنى حاكمية المخابرات الواقعة في منطقة شارع ٥٢ في بغداد كانت سابقاً معبداً للبهائيين الذين هجروا من العراق في منتصف الستينيات ليختاره النائب أن يكون معتقلاً سياسياً بعد أن حولوا خريطة المبنى الى زنازين أنفرادية عرضها تسعين سم وطولها متر واحد لاتتسع الا لشخص واحد أشبه بالتوابيت .

مرحلة مهمة في تاريخ العراق السياسي لم توثق الى الآن شهودها أغلبهم رحلوا . تابعت بأهتمام مذكرات برزان التكريتي بعد أن نشرها موقع أمريكي عثر عليها في صندوق حديد بعد إحتلال العراق وإعتقال برزان الذي كان المشرف الأول على تلك التصفيات الجسدية لرفاق الحزب ولكنه لم يمر عليها ولا بجانبه فقط ركز في مذكراته حول شجرة الدر ( زوجته ) وزواج أبنته سجى من عدي صدام حسين وقصة هجرها .

في يوم الثامن من آب وفي الساعة الثامنة مساءاً وبأمر من مجلس قيادة الثورة ( صدام حسين ) بتشكيل محكمة حزبية لمحاكمة الرفاق المتأمرين تعقد جلستها الاولى فاتخذوا من قاعة صغيرة في نهاية مبنى الحاكمية قاعة للمحاكمة وضعت فيها عدة طاولات متلاصقة مع بعضها بعضاً . جلس خلفها رئيس المحكمة المفترضة نعيم حداد عضو القيادتين القطرية والقومية ، والى يمينه حسن العامري وتايه عبد الكريم عضوا القيادة القطرية ، وسعدون شاكر وحكمت العزاوي وعبدالله فاضل وسعدون غيدان . وفي زاوية مخفية من القاعة وضع كرسي مميز أتخذه برزان التكريتي محطة أستراحة ، للجلوس عليه عندما يشعر بالارهاق من التجوال بين غرف التحقيق

في صبيحة ذلك اليوم من آب العام ١٩٧٩ ، كان جو بغداد قائض والرطوبة مرتفعة ، جاءوا بلمذنبين أو المتأمرين على شكل رتل طويل يتقدمهم عبد الخالق السامرائي متحدياً صورة المحكمة ، ويجرجر قدميه بثقل خلفه محمد عايش من وطأة التعذيب الذي لاقاه في الامس من رفاق الأمس .

خمسة وخمسون رفيقاً قيادياً بعرض مسرحي تراجيدي أدوارهم مجهولة وأقوالهم مخنوقة أمام هيئة صورة المحكمة ، وفي سؤالها الاول الى المذنبون . هل لديكم شيء أضافته عن ما قلتوه في التحقيق ؟. أي تحقيق لم يجري معنا أي تحقيق . كانت كل المؤشرات تشير الى تصفيتهم جسدياً على وجه السرعة الممكنة . هنا همس عبد الخالق السامرائي قائلاً .. أمنيتي كانت أن أعدم في اليوم الذي أتهمتوني بمؤامرة ناظم كزار العام ١٩٧٣ مع أطلاق أبتسامة خافته أن مؤامراتكم سوف لن تنتهي وهذه هي البداية والنهاية لكم . وتفوه محمد عايش بكلام مسموع ( أي أمة هذه تقدم مناضليها ، قرابين لمقدم رئيس مزور ) .

نعيم حداد في سنواته الأخيرة يعيش بعوز مدقع في منطقة صناعية بائسة في سوريا قريبة من الحدود اللبنانية وهو يكاد فقد بصره بعد أن ترك العراق بعد إحتلاله ٢٠٠٣ . زاره أحد المهتميين بالشأن العراقي وعرض عليه مبلغ للمساعدة ، لكنه رفضها ، وأيضا رجل أعمال عراقي عرض عليه مبلغ كبير مقابل الأدلاء بشهادته حول تفاصيل مجزرة قاعة الخلد ، لكنه رفض بتاتاً .

ماجرى في قاعة الخلد من الرئيس الجديد في قتل رفاقه حسب إعترافات الباحثين في تاريخ السياسة هي قريبة الى مجزرة القلعة في زمن محمد علي باشا في قتل مماليك عصره ، وبعض فصولها قريبة على ما كان ينتهجه ستالين تجاه قتل رفاقه ، وأحد القادة الشيوعيين يقربها على ماجرى في المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي العراقي عام ١٩٨٥ في خيمة أرموش السفلى ، حيث النصف ألغى النصف الآخر .

يروي المذنب مرتضى الحديثي سفير العراق في إسبانيا الى بقية المعتقلين معه في زنزانة الحاكمية ، أستدعيت الى بغداد لآمر هام ، فلبيت الدعوة حالاً وبدون تردد رغم كل التحذيرات التي وصلتني وأيضا وصلني تلكس من الرئيس السوفييتي بريجنيف شخصياً بعبارات محددة ( لاتذهب الى بغداد ) ، توجه الى موسكو ضيفاً عزيزاً ، الكي جي بي ، لديها علم بالتصفيات التي ستجري في البلاد ، لم أعر الموضوع أهتماماً ، وإن أقلقني حقاً ، وبعد نصف ساعة من وصولي العاصمة بغداد صباح الأول من آب ، كنت في مكتب السيد الرئيس النائب قبل أيام وبات رئيساً ، بادرني السيد الرئيس عن عدم فعالية طاقم السفارة العراقية في أسبانيا في فضح خيوط المؤامرة وكان حجة السفير لم تكن لنا معلومات كاملة وتوجيهات ضمن هذا التحديد . لقد أنفعل غاضباً عندما أجبته ، أني محتار جداً بدوافع محمد عايش للتأمر على الحزب ، ومحتار أيضاً بكيفية إتصال المتآمرين بعبد الخالق السامرائي ، وهو في سجنه الانفرادي ، إذ سألني عمن أخبرني أنه في سجن أنفرادي ، وأجاب هو من عنده ، لابد وأن يكون الخونة المتآمرين هم من أخبروك بذلك ، ولابد أن يكون لك أتصال بهم ، حاولت أن أجيب ، أوضح له الحقيقة ، لكنه لم يعطيني فرصة ، بعدها ضغط على زر الجرس الذي أمامه ، وأمر المقدم ، وشخص آخر دخل معه بكلمة واحدة ( خذوه ) فأصبحت بعد نصف ساعة مسجوناً في بناية لا أعرفها من قبل ، قريباً من الجندي المجهول .

حكم عليه خمسة عشر عاماً من قبل المحكمة بقيادة نعيم حداد ، لكنه قتل بطريقة مأساوية بعد شهور في الزنزانة .

يعتبر مرتضى الحديثي مهندس مفاوضات النفط العراقي وتأميمه العام ١٩٧٢ وأيضا هو من وضع صيغة الحكم الذاتي مع الاكراد في قيادته للمفاوضات العام ١٩٧٠ ، وكان مساهماً فعالاً في المفاوضات مع الشيوعيين حول قيام الجبهة الوطنية العام ١٩٧٣ .

نطق رئيس المحكمة باسم عبد الخالق السامرائي ، ومن بعده محيي عبد الحسين المشهدي حكماً بالاعدام ، فسمعه فاضل العبيدي ، الواقف الى جواره في صف المذنبين يقول ؛ هذه كلمة الشرف التي أعطيتموني أياها ؛ وسكت . أثنان وعشرون مذنباً، أولهم عبد الخالق وآخرهم غانم عبد الجليل صدرت بحقهم عقوبة الاعدام .

أمضى القادمون من جميع المحافظات العراقية الى بغداد ، ممثلين عن قيادات فروع حزبهم ، ليلتهم في فنادق خصصت لهم ، حسب الدرجات الحزبية ، بينها فندقي بغداد وأطلس ، ليساهموا في مجزرة الدم بقتل رفاقهم وتلطخ أياديهم بعار التاريخ . آخر تبليغ لهم قبل النوم ، هو التجمع في بهو الفندق الذي هم فيه بالساعة الخامسة والنصف صباحاً ، وفي تمام السادسة ، يكونون أمام بناية القيادة القطرية للحزب .

كان يوم الثامن من آب ، حاراً منذ الساعات الأولى لحلوله ، حضر الرفاق في الموعد المحدد ، لايعلمون لماذا حضروا في هذا الوقت المبكر بالذات ، يسأل بعضهم الآخر ، لماذا حضروا ، وماهو المطلوب منهم . بعضهم كان قلقاً لأن رفاق لهم حضروا الى قاعة الخلد قبل أيام ، ولم يعودوا منها ، فأصيبوا بوباء القلق الذي لايشفى .

أطل علي حسن المجيد ، بسيارة رئاسية سوداء نوع ( مرسيدس ) أقترب من جمهور المجتمعين ، أعطى أوامره الصارمة بضرورة الصعود الى السيارات المخصصة لنقلهم الى مكان محدد . لم يذكر أسم المكان المحدد ، تدخل في تفاصيل توزيع الرفاق مجاميع من عشرة أشخاص ، على كل سيارة . لدى السائق تعليمات بالمكان الذي أليه ذاهبون . المهمة التي تؤدوها اليوم تاريخية ، ستبقى ماثلة في سجل خدمة جليلة .

تحرك رتل السيارات بقيادة المجيد ، وصل المثابة المطلوبة ، ساحة الرمي الخاصة بالفوج الثاني لواء الحرس الجمهوري . ألتفت الرفاق بعضهم الى بعض ، لايعرفون الخطوة الآتية حتى الآن .

نصف ساعة مضت وهم مازالوا يقفون في أماكنهم ، ينتظرون في هذه الساحة ، التي شهدت الرمي على الأف الاهداف الوهمية ، الا هذه المرة فالأهداف ليست وهمية ، أنها من بين قادتهم ، كانوا حتى وقت قريب مسجلين كبار دولة ، وكادر حزبها الوحيد والأوحد . يمر الوقت ببطء شديد ، وعند أنتهاء النصف الأول من ساعة الانتظار ، أمتلأت الساحة بأعقاب السكائر . وصلت في الدقيقة الثالثة من النصف الثاني لها سيارتان رئاسيتان ، ترجل من الأولى رئيس الجهاز ( برزان التكريتي ) ، ومن الثانية ولدا الرئيس الجديد للعراق ( عدي وقصي ) ، كان وصولهم إيذاناً بالشروع في إكمال المهمة . أثنان وعشرون شخصاً وقفوا في رهط عريض من صف واحد ، عصبت أعينهم ، وكممت أفواههم ، وقيدت أيديهم الى الخلف .

رفاق هؤلاء الواقفين أمامكم خانوا الحزب ، تأمروا عليه ، حكموا بالإعدام من قبل المحكمة التي شكلتها قيادتكم الحكيمة يستحقون الموت ، ويستحقون أن تكون أماتتهم على أيديكم رفاق ، ليبقى الحزب أكبر من الجميع ، هذا ما قاله العريف علي حسن المجيد قبل بدأ التنفيذ المطلوب للمهمة . وزعت البنادق على الرفاق ، أنا لدي بندقيتي الخاصة ، ولا أريد بندقيتكم قالها عدي الأبن البكر للرئيس بصيغة آمر ، الضابط نعم سيدي ، آمرك سيدي قال في رده على أوامر أبن الرئيس . أشر عدي الى سائقه أن يجلب له بندقية الصيد الغالية الثمن من سيارته وكذلك بندقية القنص الامريكية لاخيه قصي . وطلب عدي أن تكون حصته محمد عايش أما قصي فحصته الملا عبد الخالق السامرائي ليبدا بالتنفيذ تحت هتافات باسم الرئيس الجديد . أراد وليد محمود سيرت فك الشريط اللاصق من على فمه مما لفت أنتباه الجميع ، فالتفت علي حسن المجيد الى برزان التكريتي ، سائلاً عن أمر هذا وليد ، قد يكون لديه قولاً يهم الحزب ، في صحوة ما قبل الموت ، لا أعتقد هذه ، أجاب رئيس الجهاز ، وأكمل القول من أن وليداً معروف بوقاحته ، وأن مجرد رفع الشريط عن فمه ، سيسمعنا كلام لا يصح سماعه أمام هذا الجمع من الرفاق ، ثم أن لدي توجيه من قبل السيد الرئيس بسد الأفواه ، لكي لاينطقوا الشهادة ويموتوا كفرة لخيانتهم الحزب والثورة .

المصادر …..

١ . رواية ( حفل رئاسي ) ل سعد العبيدي

٢ . شهادات خاصة ( للتاريخ ) للدكتور حميد عبدالله ( أحسان وفيق السامرائي ، ضرغام عبدالله الدباغ ، سليم الامامي ، وليد السامرائي ، تايه عبد الكريم ، محمد السباهي ، فايز الخفاجي ).

٣ . لقاءات تلفزيونية مع الدكتور عبد الحسين شعبان .

٤ . كتابات للباحث شامل عبد القادر .

٥ . برنامج أحمد منصور ( شاهد على العصر ) مع حامد الجبوري .

٦ . حوار محمد دبدب مع جريدة الزمان .