على أنغام تغريدة البلابل وزقزقة العصافير في كل اشراقة.. يستنشق عبير الازهار وتشم انسام الصباح.. وعلى اطلالة الطالع تتفئ اقدار الزمن باصرار وتوكيد على التماشي مع الاجل.. فمن اعماق الرغبة بدأت حراكات هذا لهذا وذاك لذاك.. فلا الغث سمين ولا السمين غث.. لقد خبأ القدر ما فيه الكفاية.. فهل هي لعبة او انها لعبة البشر.. ولعل الاستجابة لتداعياته (القدر) امر قد يحقق مكتسبات.. بيد ان هذه المكتسبات قطعاً ستكون على حساب ثمن باهظ وامر جلل.. فهي تكلف الكثير من التنازلات.. الا الوطن فيجب ان يكون في قلب الجميع.. فان الدنيا بحر عميق وفيها هلك اناس كثر ودرست مدن فلم يبق منها الا الاثار..
ولقد كان لبغداد وما زال صدأ يصدح في مسامع اهل التطلع.. بغداد الشموخ والعز والادباء.. بغداد بلد الحضارة والمدنية.. بغداد بلد الشهداء والنجباء.. بغداد روح الامة وينبوعها.. بغداد بلد المطرقة والسندان.. بغداد بلد الاشعاع الفكري.. بغداد موطن الثقافة والمثقفين.. بغداد بلد الانجاب لأجيال صنعوا التأريخ وبدماء طاهرة زكية.. بغداد ارض الطيب والرخاء والعيش الرغيد.. بغداد اشراقة الوفاء والاخاء.. بغداد منارة المجد التليد.. بغداد بلد الاسود.. بلد السواد والنعيم والخير المرير.. بغداد أم الدنيا.. كل هذا العمق التأريخي لبغداد.. هذه المدينة التي بانت سماها واضحة في كل بقاع المعمورة كجزء من عراق عظيم (أبو الدنيا) لم تتجزأ منه كما هي بقية المحافظات التي لا تقل معاناة عن بغداد.. لم تعد مظاهرها موحية لفحوى مكامنها.. جراء ما أصابها من هدم وتخريب وتفجير وتدمير وفساد.. على يد الحقد الدفين والحسد اللعين.. مما يضحك الثكلى.. ان رحم الحروب كان وما زال ولودأ لكوارث وصلت الى التوأمية.. ادت بالتالي الى طمس لمظاهر مدنية المدينة.. مما يبدو ان هذه الولادات لم تحصل الا بفعل فاعل مع سبق الاصرار والترصد.. محبذاً كل الامكانيات والقدرات المتاحة له متأبطاً كل عناوين الغل..
من اجل اغراق هذه المدينة العريقة التمدن في بحر ظلمات الجهل والامراض والخبث بعد ان يجعل منا بلد الارامل والثكلى والايتام واحباط مفكريها من أية محاولة انقاذ من خلال آليات شتى وادوات عدة منوعة.. بشرية كانت ام مادية.. ترهيبية كانت ام ترعيبية.. فكلما حاولت عناصر الخير مد جسور المحبة والتودد.. قطعوها عناصر الشر بأساليبهم المقززة كدعاة للتطرف والفتنة والتعنصر والتكتل.. قد نزغ الشيطان بينهم وبين انسانيتهم وختم على قلوبهم بالفوضى والضلالة فلا يطيقون كل رتاق صلوح.. عاملين تحت سقوف ليس لها ظل الا التمويه.. لذا فنحن بحاجة الى اعادة فرمتة وعملية تنقية جدية وزرع لما هو مثمر ومزهر بغية خلق جيل متفهم متعاون مدرك واع داع للحق مسالم شكور وناظر الى المستقبل بعين سليمة ونظرة ثاقبة تتعدى ارنبة الانف من اجل غد مشرق حريري ننعم فيه بأخوة صادقة لا تعتريها شائبة بعيداً عن الاستغلال والاتكالية والضغينة والغرضية مع تفعيل هاجس الثقافة المجتمعية الرامي الى نكران الذات وايثار الغير والتضحية في سبيل الاصلاح.. وقد لا يكون هذا بالامر الهين لما تتطلبه المرحلة من وقفة مدعومة فكريا وعلمياً واخلاقيا وباستقلالية تامة وبأمتياز للخروج بنتائج ناجعة وسط بحر من الضغائن هائج وذي امواج متلاطمة..
خصوصاً وان الشيطان يسكن في هياكل البشر.. فيجري في عروقه مجرى الدم.. ليقعد لهم كل صراط مستقيم.. فلأي الامور يقال (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقاً لا يستوون) السجدة/ 18.. فبمقتضى الحكمة ينبغي ان تجري عملية فرز وتمحيص للأجناس فليس الضرورة ان تعود النفس للجنس او المخلوق.. انما هي لله تعالى.. فهو الخالق البارئ.. وما نحن الا مجرد اداة لبث الحياة في الوجود كالروح في الجسد.. لاسيما ان كل شيء خلقه الله لخدمة الانسان تلك الروح التي تبث القدرة على الحركة من باب الاسباب والمسببات.. فما من شيء قائم الا بسبب.. الامر الذي يدعونا كمجتمع ان نعي هذه المسؤولية وان نقيم حدود القانون الحياتي على انفسنا قبل غيرنا في التعامل والحفاظ على ديمومة النظم الانسانية واحترام حرية الاخر من حيث انها قانون..
وان ننبذ كل البدع والسلوكيات المستوردة والدخيلة كبديل له.. اخذين بنظر الاعتبار التجارب التي مررنا بها ومن ثم تجربة العالم من حولنا والذي نحن جزء منه كوجود على الارض.. التجربة العلمية العملية النهضوية التطويرية.. فمما لا شك فيه ان جزء من اسباب الهيمنة وفرض الشخصية الدولية هو التطوير العلمي.. فالغرب كمثال بتطويرهم العلمي منحهم الهيمنة على العالم سواءً في مجال التصنيع ام غيره.. فالتطوير العلمي هو خدمة الانسانية قبل كل شيء.. فبقدر خدمة الانسان للناس الناس تحبه.. فالله الله بعراقنا العظيم وبغدادنا الحبيبة وناسنا وأقوامنا فالتعاون والتآخي والتسامح رفعة (وخير الناس أنفعهم للناس) حديث شريف.
نقلا صحيفة التآخي