مهرجان الأقنعة
التاريخ ذلك الكائن العجيب الذي لايكشف عن نفسه وتراكيبه ومفرداته بسهولة ، إذ فيه ما يبقى دائماً مجهولاً غامضاً ،بعضه مأساوي مفجع ، وبعضه الآخر طريف مثير، لكن في الحالتين لم يحدث مرّة أن أظهر التاريخ كلّ (عوراته) دفعة واحدة أو حتى بتدرج طبيعي إذ هناك ماهو مقفل عليه أو مُقدّم بصورة قناع يغطّي وجه الحقيقة ، فتظهر قبيحة حيناً وجميلة حيناً لكنها ليست هي ذاتها في كلّ حال .
ولما كان لكلّ عصر ملامح معينة تطغى على ماعداها وتترك من ثم بصماتها على مساراته وتعرجاته ومايحدث فيها ، فكما شهدت أمّة أو بلد ما ، عصور إزدهار ارتفع فيها مستوى الشعب في جوانب كثيرة من سياسته وثقافته ومعيشته وعلاقاته ، عرف كذلك عصور انحطاط إنهارت فيها القيم وتدهورت مستويات الحياة وهبطت الآداب والفنون وانتشر الزيف والرياء وعمّ الفساد ، أما السياسة فتصبح بمثابة رقصة عارية يمارسها من هو مستعدّاً لذلك ومهيأ له .
التاريخ والحالة هذه ، يكون أشبه بكرنفال هائل للأقنعة ،كلّ منها يخفي شخصية من يرتديها ،بملامحها ومطامحها ومايعتلج فيها من دوافع الخير ونوازع الشرّ ، وربما كان أول من احتفل بمهرجان الأقنعة المسمى (هاللوين ) أراد أن يقدّم صورة مصغّرة لكثافة زمانية في محدود مكاني ، ولكي تكون الإثارة أكثر تأثيراً وامتداداً في عمقها ورمزيتها ، يقام المهرجان في الليل دائماً ، وغالباً تحت أضواء خافتة وبحضور مدعوّين يرتدون ثياباً خاصّة بالمناسبة، قد يشمل بعضها تقليد شخصيات تاريخية مشهورة بحروبها أو فضائلها أو غدرها أو قسوتها ،وذلك في إيحاء طافح بالدلالات ، فيحضر راسبوتين إلى جانب بطرس الأكبر، ونابليون إلى جانب جوزفين ، ويوليوس قيصر أو مارك انطونيو متأبطاً ذراع كليوباترا ،وقد يحضر أورليان يقود زنوبيا بسلاسل (ذهبية ) مصنوعة من ورق أصفر ، وقد لايغيب دراكولا أمير الرعب الروماني ، كذلك ليس من المستغرب أن ترى بين الحضور الملكة نفرتيتي وفرعونها إخناتون ،أو يتقمص أحدهم شخصية جنكيز خان أو هولاكو أو آتيلاً ،وقد يختار أحد المحتفلين لباس أمير عربي بعقاله وكوفيته وعباءته التقليدية ، بل وترتدي إمرأة ثوباً شرقياً مما كان لجواري هرون الرشيد مثلاً ،لكن من النادر أن تظهر شخصية تمثل أحداً من العراقيين الذين صنعوا التاريخ ومن ثم ملأوا صفحاته ودوّنوا فصوله بعظيم ماصنعوا ،فلم يظهر الدستوري الأول في التاريخ (أوركاجينا) ولا أول محرر من الإحتلال (أوتو حيكال ) ولا كذلك أول الثائرين وأعظم الفاتحين (سرجون الأكدي ) أما أول جبار نسجت الأمم على صورته (جلجامش) وأول من خطّ قانوناً (حمورابي ) وأول من أقام نصباً تذكاريا ًلتخليد انتصاره ( نبوخذ نصّر) بل وأول من خاطب غيمة ليشير لها بالذهاب حيث تشاء فإنها لن تخرج من أرضه (هرون الرشيد ) فمن النادر أن يقلّدهم أحد أو يقوم باستحضارهم في (الهاللوين ) ،فهل ذلك جهلاً بتلك الشخصيات ؟ أم احتراماً لها ؟ .
المفارقة الأكثر تعبيراً في عيد (الأقنعة ) ذاك ، تتجلى حين تسير مجموعات من اليافعين بأقنعتهم من كل صنف ولون ، فيطرقون أبواب البيوت وحينما يفتح أصحابها ، يفاجئهم مرتدوا الأقنعة المرحين صارخين بصوت واحد : لغز أم حلوى ؟
لندع الغربيين يحتفلون بعيدهم ذي الأقنعة وليقلدوا ما أرادوا من الشخصيات ، فذلك لايعنينا الا بمقدار مانتماثل معه،لكن مايعنينا على وجه الخصوص هو مانشهده من (هاللوين ) في العراق الجديد ، مع فارق إن المحتفلين ب(هاللوين ) يعرفون انه مهرجان للمرح – يطلقون عليه عيد جميع القديسين – وبالتالي فما يستحضرونه من التاريخ يكون الهدف منه إضفاء جوّ من المتعة على ذلك الإحتفال – وإن إستغلّه مجرمون لارتكاب جرائم مرّوعة – .
أما (هاللوين ) العراق ،الذي يصحّ أن يُطلق عليه (عيد جميع السياسيين ) فهو ليس مجرد مهرجان ينقضي في ليلة أو نحوها،ولا أطفال يطلبون حلوى أو يطرحون لغزاً ، بل تراجيديا متسلسلة متصّلة الحلقات يسجلّها التاريخ ويروي مايحدث فيها ، حيث تتقاسم الحلوى أفواه السياسيين ، فيما تبقى الألغاز دائرة في أذهان عموم الناس من دون أن تجد لها إجابات .
أول المقلّدين ل(الهاللوين ) العراقي هم السياسيون ،وأول من يشغل المقاعد الجانبية الأولى فيه هم النواب من الجنسين ،راسمين في سلوكياتهم وحركاتهم ، لوحة سوريالية خالية من الإبداع ،فالنساء من النائبات اقتصرن على تقليد شخصيتين نسائيتين من التاريخ هما خولة بنت الأزور العربية وجان دارك الفرنسية ، لكنهن يقتبسن شجاعة الأولى دون الاستعداد لتحمّل تضحياتها ، وشهرة الثانية دون مصيرها ، ولما كانت الشجاعة هنا لا تتطلب سوى الكلام المصان بالحصانة النيابية ،لذا فال(هاللوين) النيابي يمارس كلّ يوم بذات الأقنعة .
أما النواب، فقد إختلف الهاللوين عندهم ،إذ لم يقدم بعضهم سوى على ارتداء قناع شارلي شابلن دون عبقريته فبدا أكثر إضحاكاً ، أما البقية فلديهم قناع لكلّ مناسبة ، لكن مايلاحظ إن أيّاً من تلك الأقنعة لم يكن ليناسب صاحبه ولو مصادفة، فالحقيقة في الغالب الأعمّ تتناقض مع القناع الذي يحرص السياسي على ارتدائه .
الطرف الثاني في المعادلة همّ الموظفون الحكوميون ، فهؤلاء وقد رأوا ماهو سائد في العراق الجديد من رثاثة السياسة وفساد السياسيين ، وبعد أن امنوا العقوبة لوجود من يحميهم ويدافع عنهم حسب الطائفة أو الإنتماء الحزبي ،شمرّوا عن سواعدهم لا ليبدعوا في العمل ، بل لأخذ الرشوة جهاراً ومن دون الحاجة إلى أقنعة، فالموظفون يشعرون إنهم ليسوا مطالبين سوىبإرضاء الحكومة أوكبار المسؤولين وقادة الكتل والأحزاب ، وبالتالي فهم ليسوا مثل السياسيين يضطرون إلى طلب رضا الشعب كي يمنحهم أصواته فيزداد نفوذهم ويتقدّمون في المراكز أو يحافظون على ماهم فيه ،لذا وفرّت الغالبية العظمى من أصحاب الوظائف على نفسها عناء البحث عن أقنعة وصاروا يسامون المراجعين بشكل علني على مقدار محدد من المال لإنجاز المعاملة حسب أهميتها ، ولم يشذّ عن ذلك إلا القلائل الذين سرعان ماوجدوا أنفسهم غرباء عن محيطهم ،ذلك هو ثنائي الفساد .
أما ثلاثي الهزيمة ، فهم المثقفون بشكل عام ، وإن انقسموا بدورهم إلى فئات ثلاث:
1: الملحقون بالسياسيين أو الملتحقون بهم أو ممارسوا السياسة منهم .
2:الملتحقون بالوظيفة ، خاصة أولئك المنتمين إلى أحزاب أو حركات سياسية ذات نفوذ .
3: الكتّاب المستقلون .
الصنف الأول من المثقفين خرج من كونه مثقفاً ، ليحسب في عداد السياسيين وإن استغلّ صفته الثقافية لتقديم نفسه بصورة المتميز ، لكن ذلك لم يجد نفعاً ، فقد جرفته السياسة وألبسته قناعها ، فيما تراجعت الثقافة لديه في جانبها الإبداعي فأصاب نصوصه الهزال والسقم ، ما جعله يشابه ذلك الرسام في قصة نيكولاي غوغول (الصورة ) .
أما الملتحقون بالوظيفة ، فبعضهم لم يصدّق إن مارد المصباح قد استجاب له وقالت له الوظيفة :شّبيك لبّيك ،لذا سارت الأمور الثقافية معه بمعادلة عكسية : كلما إزداد خواء النصوص وبانت رداءتها ، كلما إزداد نهمه لمزيد من ترويجها مستغلاً منصبه الوظيفي ، ولما كان لا يعدم العديد من النقّاد وزملاء الثقافة الذين سيشيدون بما يفعله ، لذا شهد العطاء الثقافي تراجعاً مطرداً في النوع مع وفرة متزايدة في الكمّ ،وفقاً لقاعدة مفادها: نتاج أردأ – ترويج أوسع .
القسم الثالث من المثقفين كانوا همّ الأكثر عرضة للتقلبات صعوداً وهبوطاً، فالكتّاب السياسيون منهم – خاصّة ومعظمهم قد دخل مضمار الكتابة بحكم الدارج – وجدوا إنهم وفي ظلّ الأعداد الكبيرة من الكتّاب المتنافسين في ماراثون مفتوح بلا قواعد أو ضوابط ، لن يتمكنوا من الترويج لأنفسهم ،الإ من خلال الكتابة في المجال السياسي كونه السلعة الأكثر رواجاً ، ما أغرى أدباء وأصحاب نصوص من شعراء وقصاصين وروائيين – بل ومسؤولين سابقين – للإدلاء بما يحملون علّهم يجدون لأنفسهم موقعاً وسط ذلك الزحام ،لكن هؤلاء وبعد أن أدركوا بأن مايكتبوه يذهب هباءاً وأن وضع العراق يزداد سوءاً ، تركوا الكتابة السياسية وعادوا إلى نصوصهم يبثونها مناجاتهم وشكواهم ، فإمتلأت النتاجات الأدبية بالندب والبكائيات وآثار اليأس والقنوط .
وهكذا خلت الساحة لكتابة سياسية لم تنتج فكراً ولا غاصت في عمق المشكلات التي يعاني منها العراق ،بل اكتفت بإيراد السطحي والمرئي المتداول على ألسنة الناس ، فكان إن انقسمت الكتابة إلى :شاتمين ومادحين ، إذ مال أكثر الكتّاب إلى إظهار عيوب السياسة ولعبتها غير النظيفة والأحزاب ومساوئها واستشراء الفساد بين السياسيين ومقدار تبعيتهم – الخ ، فيما دافع البعض الآخر عن كبار السياسيين والأحزاب البارزة وماشابه ، فثارت بين الطرفين مايشبه حرب (داحس والغبراء ) .
المثقفون من الأدباء ، انقسموا بدورهم إلى كتل تجمّعت في مواقع إعلامية معينة ، فكانوا يتبادلون المجاملات والإشادات بعضهم ببعض درجة فاقت المبالغة بل وتعدّتها إلى حدود يظن القارئ من خلالها،إن مايُكتب من نصوص في هذه المرحلة ، هو الأجمل والأكثر إبداعاً ليس في العراق وحسب ، بل في كلّ ما خطّته البشرية عبر تاريخها ،هذا مايلمسه المتتبع ل(القراءات) – النقدية على مايفترض والمدحية كما هي في الواقع – التي كتبها نقّاد متمرسون في هذا النوع من الكتابة ، إضافة إلى التعليقات الكثيرة التي تمتدّ أسفل النصّ وكلها تشيد بالمنشور وصاحبه ،ما يجعل بالإمكان جمع ماكُتب لتحويله من ثم إلى مسرحية كوميدية تعبرّ عن طبيعة المرحلة.
وهكذا يمكن القول إن ثلاثي الهزيمة تكّون من :النصّ المفرغ من الإبداع والنقد المفرغ من الحقيقة والكتابة السياسية المفرغة من المحتوى،وفي حين اقتصر ثنائي الفساد على السياسة والوظيفة ، وأُرتكزت الكتابة السياسية على قاعدة : قسم يشتم ،وآخر يدافع ويشتم ، عاد الشعر للتلهى بعيون الحبيبة الغزلاني ووجهها القمري وشفتيها الورديين – سواء رمزاً وإيحاءاً أو مباشرة وتصريحاً – أما الشعر الوطني ، فقد سار على الندب والرثاء ومسح أية بقعة يمكن أن يتركها ضوء على جدار من أمل ، فيما ذهب آخرون إلى شعر المنابر والمناسبات الدينية ،وانهمك النقد باكتشاف الحداثوية والتفكيكية والبنيوية والسوريالية ، ليستخرج منها بناءات جمالية في (جملونات ) خشبية متهدّلة متهاوية ، فأصبح مجرد بويت في قصيدة كُتبت في لحظة تلّبس صاحبها بالعطاس ، أعظم ماقيل في الشعر العربي قديمه وحديثه .
في ظلّ أجواء كهذه ، ضنّ المبدعون الحقيقيون بنصوصهم كي لاتضيع وسط هذه الفوضى الضاربة والرداءة السائدة ،لذا حرصوا على نشرها في وسائل محدودة ، أما في المجلات والصحف المرموقة ، أو طبعها على حسابهم الخاصّ لتوزع على الذين مازالوا يحتفظون بذائقة أدبية سليمة ،أو قراءتها في جلسات خاصّة .
حين قتل محمود درويش القمر في قوله :(” ياشعراء أمّتنا المجيدة- انأ قاتل القمر الذي كنتم عبيده) لم يقصد به ذلك المرسل الضياء في ليالي التائهين، ولا الشاهد على مناجاة العاشقين ، بل ذلك المتحجّر الصنمي الذي جعل الشعراء يتخذونه إلهاً ،فيدورون حوله وهم أشبه برجال القبائل البدائية يرقصون حول موقد للنار مطلقين الهتافات وملوحين بالرماح والفؤوس و قبضات الأيدي .
وكما أن كلّ من أولئك الراقصين يمجدّ رقص الآخر (زميله وشريكه ) من دون أن يسعى إلى تقليده بالضرورة إلا إذا كان بارعاً إلى درجة ملفتة ،عندها قد ينال إعجاباً مضاعفاً من الراقصين والنظارة معاً ، كذلك همّ معظم الشعراء رغم كونهم يتبادلون إيقاع الرقص على قرع طبول الهزيمة أو السياسة ، لكن كلّا منهم يسعى أن يكون مُلاحَظاً ومنظوراً في جوقة الراقصين ، ولن يتم له ذلك إن لم يرسل نظرات (الإعجاب ) أو يدّعيها أملاً بأن يقابله الآخر بالمثل ، وهكذا يشقّ طريق (الشهرة ) فيركبه الاعتقاد بأنه المتنبي ( شو هالمسكين ) على حدّ تعبير سعيد عقل ،مجرد بدوي جاهل لم يكن ليعرف معنى الحداثة بلغتها المتلالئة وصورها المدهشة التي (يبدعها ) معشر الشعراء ويستخرجها لهم شعراء آخرون أو نقّاد يبحثون بدورهم عن الشهرة والمجد .
تلك هي أهم وأوضح ملامح صبغت وجه المرحلة التي يعيشها العراق في تحوّلاته المتعثرة ، أما تصنيفها ، فاعتقد إن أحداً لن يقدم على مغامرة وصفها ب(عصر الإزدهار ) وإن تردد كذلك في وصفها ب( مرحلة الإنحطاط ) لعل في الجعبة بقيّة من سهام لم ترمَ بعد.