20 مايو، 2024 11:00 م
Search
Close this search box.

بغداد السبعينات .. المقاهي والحانات والشعر

Facebook
Twitter
LinkedIn

تحتل فترة سبعينات القرن الماضي أهمية سياسية وأجتماعية وأقتصادية وثقافية وأبداعية في مُجمل تأريخ العراق عموماً ، وعاصمته بغداد خصوصاً ، بسبب  تأثيراتها  العميقة في بُنية المجتمع العراقي على مختلف الصُعُد . وعلى وقع هذة الأهمية ، صدرَ العديد من الأصدارات التي تتناولها بمختلف جوانبها ، سواءً على المستوى الشخصي أو العام .
من ذلك ، ( السيرة الأدبية ) للشاعر العراقي المقيم في لندن ( هاشم شفيق ) التي صدرَتْ عن دار ( المدى ) في نهاية عام 2014 بعنوان ( بغداد السبعينات : الشعر والمقاهي والحانات ) .
     أَزعمُ أني قريبٌ من موضوع هذا الكتاب ، باعتباري واحد من الذين تَفَتَحَ وعيهم المعرفي والثقافي والسياسي والإبداعي في تلك الفترة ، اضافة الى ان بعض الأسماء والأماكن والنصوص والحيثيات التي أشار الكاتب اليها ، ربما كنتُ مُشاركاً في صنع ( صداقاتها ) أو ( أحداثها ) أو ( نصوصها ) ، أو كنتُ قريباً جداً  ، أو عارفاً بها ، في أقل تقدير .  
     عرفتُ الشاعر هاشم شفيق ( مواليد 1950 ) في البدايات المُبكرة جدا  لعقد السبعينات مع العديد من شعراء وأدباء وفنانيين ومُبدعين اَخرين ، من خلال ترددي على اماكن الفعاليات الثقافية والشعرية والفنية ، والمقاهي مثل ( البرلمان ) و ( الأعيان ) و ( حسن عجمي ) في شارع الرشيد / الحيدر خانة ، و ( المعقَدين ) في الباب الشرقي  ، غيرها . اضافة الى نوادي وبارات وحانات بغداد المختلفة مثل ، ( نادي اتحاد الأدباء ) و ( جمعية الموسيقيين ) في ساحة الاندلس ، ونادي ( الأعلام )الذي كان موقعه في بناية وكالة الأنباء العراقية القديم في شارع ابي نؤاس ، و( جمعية التشكيليين ) في المنصور في كرخ بغداد ، وغيرها كثير .
     كان الهَم الثقافي والأبداعي والشعري هو الاَصرة المشتركة بيننا ، بالرغم من الأختلاف الأيديولوجي والسياسي بيني وبينه ، والذي لم يؤثر على علاقتنا الأنسانية والشخصية رَغمَ حدته ، وربما ، قسوته في مراحل معينة ، بحكم تطور الأحداث السياسية وانعكاساتها في العراق .
     كان ( هاشم ) هادئاً ، مُسالماً ،صاحب روح صداقة نبيلة ، وصوت منخفض هامس تشعر بحميميته ومتعة الأصغاء أليه . يسعى غالباً أن يكون موضوعياً في طروحاته ونقاشاته ، دون أن يسْتَفِزَّ الاَخر قولاً او فعلاً . ربما كان على العكس من بعض جُلاسه ، من الذين يُشاركَهُم مُعتقدهم الأيديولوجي – أيام السبعينات _ ، مثل الشاعر العزيز ( شاكر لعيبي ) __ الدكتور في علم الجمال حاليا ومقيم في تونس __ والمرحوم ( عادل طه سالم ) __ أبن الكاتب المسرحي الكبير طه سالم ، وشقيق الممثلة الدكتورة شذى سالم __ وغيرهما .
      أما على المستوى الأبداعي _ الشعر تحديداً _ ، فقد كان هاشم شفيق شاعراً يمتلك خيالاً خصباً و معرفة شعرية جادة وحصيلة ثقافية جيدة وتجربة حياتية لها أبعادها الخاصة ، حاول تطبيقها في قصائده الشعرية ، ألا  أنه لم يستطع ان يمتلك صوتاً شعرياً متفرداً متميزاً، الأمر الذي جعله شاعراً ضمن ( الموجة ) وليس ( رأساً ) أو ( حادياً ) لها ، او مُتَجاوزاً لبعض مجايليه من الشعراء الذين يُشار لهم بالتميز , مثل المرحوم رعد عبد القادر او خزعل الماجدي او زاهر الجيزاني.
    بأختصار شديد ، كانت وربما ما تزال ، تجربة هاشم شفيق الأبداعية في مجال الشعر , هي ظلال وصورة فيها بعض تشويش ، لتجربة الشاعر الفرنسي ( رامبو ) والشاعرين ( أدونيس ) و( سليم  بركات )  ، وربما اَخرين ، بدرجة أو أخرى . لا زلتُ أحتفظ بنسخة من ديوانه الأول( قصائد أليفة )التي أهداني أياها ، مشكوراً ،بخط يده في السبعينات . وبالرغم من أن عدد دواوين الشعرية بلغَ(15) ديواناً ، حسب  ما ذكره في كتابه النثري الجديد ، والتي قرأتُ بعضها ،فأنني لا زلتُ أظنُّ ان شعر هاشم شفيق لم   يَنفَذْ  بعد من معطف ( قصائده الأليفة ) .
    بعد هذا الإيجاز الذي رأيته أمرا مفيدا عرضه عند تناول كتابه (بغداد السبعينات: الشعر والمقاهي والبارات )، أعود الى الكتاب نفسه.
    “هاشم ” في كتابه الجديد، كان صادقا في عرض مسيرته الادبيه عبر لغة شفافة، جميلة، تبتعد قدر الإمكان، عن الصياغات البلاغية المصطنعة وغير المبررة”.
    تناول في فصوله الـ (23) الشعر وعلاقاته وتداخلاته الحياتية والإجرائية، والذي كان يراه منذ عام 1974 هو (الضربات الكهربائية داخل طقس الكلمة).
    أن الشعر كان ولايزال هاجسه الأساسي وقلقة الوجودي وهمه الحياتي منذ أن كان في الرابعة عشرة من العمر في منطقة (تل محمد) في (بغداد الجديدة) وانتهاءً باستقراره في لندن (الآن) بعد رحلة سفر وعذاب وغربة في مدن مثل بيروت وقبرص وباريس وبراغ وغيرها.
كان سلساً في عرضه، مخلصا لمعلوماته، قريبا من نفسه وأصدقائه الذين يذكرهم في سيرته، مهتما بالتفاصيل الى حدِ كبير. _ وبالمناسبة هذه خاصية تؤشَرُ في شعر هاشم شفيق اهتمامه الحاد والجاد في رصد التفاصيل ومحاولة الاستفادة منها_.
    ففي فصل (الشعر والبحر) كان دقيقا في وصفه، كيف كانت مفردة “البحر” تشكل هاجساً يومياً في شعر شعراء جيله السبعينيين، وما يشكله الشاعر (أدونيس) من اثر كبيرٍ في شعرهم وشعر من سبقهم، تحديداً الستينيين، الامر الذي جعله، وهو في عمر لا يتجاوز (24) سنه عام 1975، أن يختار السفر براً الى بيروت لرؤية البحر ولقاء ( أدونيس).
    كذلك الامر في فصلي (الشعر والمقهى) و (الشعر والحانه)، كان دقيقاً ومنصفاً في وصفه، إلا بعض الاخطاء في ذكر أسماء الحانات مثل نادي (الجباة) الذي أسمه في الحقيقة هو (نادي المصلحة) في باب المعظم وهي (مصلحة نقل الركاب) وليست (شركة النقل العام) “ص47”. أن ذكر أسماء الاماكن وغيرها بأسمائها، كما كانت، أمر حيوي في تدوين السيَّرة أو المذكرات . وفي الصفحة “43” ذكر أسمين هما (سلام كاظم) و(سلام الواسطي) وكأنهما شخصان مختلفان، وهما في الحقيقة لشخص واحد هو (الشاعر سلام كاظم “الواسطي”) من مواليد (1955)، كما هو الحال عند الشاعر (مالك الواسطي) الذي حمل أسما آخر، فيما بعد ، هو (مالك مالك) – الدكتور- المقيم حاليا في ايطاليا .
    وعلى ذكر الاسماء فقد تردد في الكتاب اسم الشاعر المبدع (زاهر الجيزاني)، باعتباره رفيق صبا وشباب الكاتب في منطقة (تل محمد) في بغداد الجديدة. أن الاسم الحقيقي للصديق الشاعر (زاهر) هو (عبد الزهرة) وأن أول من أطلق عليه اسم (زاهر) هو المرحوم الشاعر الاستاذ (عبد الامير معلّه) الذي كان يشغل مسؤوليه الصفحة الثقافية في جريدة الثورة البغدادية في بداية السبعينات. ولكثرة ورود أسم الشاعر (زاهر الجيزاني) على صفحات الكتاب، توحي وكأن (زاهر) يحمل نفس الاتجاه الأيدلوجي للكاتب، بالرغم من أن الأخير لم يصرح بذلك بشكل واضح، لذا أؤكد القول أن (زاهر) لم يكن منتمياً (تنظيميا) أو (صداقةً) للحزب الشيوعي العراقي في فتره السبعينات، بل كان كل همة الشعر، والسفر، والابداع، مع بوادر ميول دينيه تم تجاوزها في المراحل اللاحقه من حياته. وهناك تفاصيل كثيرة لا أريد الخوض فيها في هذه المرحلة.
    أما في فصل (الشعر والموسيقى)، فقد كان موفقاً في الاشادة بالثقافة الموسيقية للشاعر (فوزي كريم) إذ انه فعلا ذو ثقافة رصينة بالموسيقى الكلاسيكية العالمية، وله ذوق رفيع في هذا الشأن. إذ هو الذي دلَّنيْ ، شخصياً، على هذا الباب من أبواب المعرفة والثقافة، وجعلني أشتري (كرام فوناً) قديما نوع (فيلبس) من سوق (الهرج البغدادي)، وشجعني في الحصول على اسطوانات تلك الموسيقى، الامر الذي دعاني الى الاشتراك في المكتبة الصوتيه التابعة الى (المركز الثقافي البريطاني) الواقع في (الوزيرية) للحصول على أسطوانات الموسيقى العالمية الاصلية، مقابل اشتراك رمزي قدره (دينار واحد فقد)، وكان هذا الاشتراك عاملاً مهما في تنمية معرفتي وذائقتي الموسيقية واللغوية، إذ كنت أستمع من خلال تلك الاسطوانات ايضا الى مسرحيات انكليزية كلاسيكية بلغتها الاصلية وباداء ممثلين أكفاء. ومن الطريف أن أشير الى أن المركز الثقافي البريطاني (يوقف) أعارة الاسطوانات في أشهر الصيف (حزيران، تموز، آب) ولغاية المنتصف من شهر (أيلول) حفاظا على تلك الاسطوانات من التلف بسبب حرارة الصيف المُفرطِة. وهذا اجراءٌ أراه منصفا وعادلاً.
    وبعد هذا الاستطراد (الموسيقي) ، أرى أن (هاشم شفيق) لم يكن دقيقا في ذكر برنامج (الرفوف العالية) حيث أن البرنامج كان اذاعيا ولا يُقدم من (الشاشة الصغيرة)كما جاء في وصفه، وأن مقدمه هو المرحوم (عبد الحميد الدروبي) الاذاعي المخضرم المعروف وليس (حافظ الدروبي) كما قال في كتابه. إضافة الى ذلك ، أن البرنامج لم يقدم مقطوعات من الموسيقى العالمية بقدر تقديمه اغنيات عراقية وعربية قديمة. ومن الجدير بالذكر أن المرحوم الدروبي هو والد المذيع التلفزيوني المعروف في تلك الفتره وبعدها (ماجد عبد الحميد الدروبي). ربما نلتمس العذر للكاتب بأن (ذاكرته) لم تسعفه بعد كل تلك الفترة الطويلة من الغياب عن الوطن.
    أنني احترم تجربة الشاعر (هاشم شفيق) في كل مجال ذكره في سيرته الادبية هذه، واقدر أياً من الاراء المعروضه فيها، وأعرف تماما أنه قارئاً جيداً للشعر الاجنبي المترجم الى اللغة العربية. لكن استغربتُ من ذكره أنه ترجمَ ما يزيد على (سبعة) كتب شعرية ، نشر (أثنين) منها، ولاتزال هناك (خمسة) تنتظر (ناشر يقدر الجهد المبذول بها على مدار عشرين عاماً)(ص173). ويؤكد أنه لايعد نفسه (مترجماً بالمعنى الحرفي)، إنما يحبُ (اللعب بالكلمات وتلوينها) ! أنه يعتبر نفسه (ذوّاقة) لفَتَهُ (شيء جميل) وأحبَّ (استدراجه الى ) عالمهُ (الشخصي واللغوي والفني) ليحوّله (الى العربية). إضافة الى اراء أخرى حول ترجمة الشعر من لغته الام مباشرة أو عبر لغة ثالثة .ص (173-176).
ما اريد التعليق عليه هنا باختصار ، هو أن لـ (فن الترجمة) أصول نظرية وقواعد عملية، حددها علماؤه ومحترفوه، ليس من السهولة تجاوزها تحت رغبة ومزاج كي تُصْبِحَ (لعباً بالكلمات وتلوينها) ! أو (استدراج شيء جميل الى العالم الشخصي واللغوي والفني للمترجم)!. نعم ، قال البعض لا يُتَرْجم الشعرَ إلا شاعر، ولكن ماهي أدواته وخبراته ومهاراته في اللغة المُتَرْجَم عنها أو إليها؟ هذا هو السؤال الاساس. أنا هنا لا انتقصُ من كفاءة الشاعر هاشم شفيق في الترجمة ، لانني ، ببساطة ، لا اعرفها، لكن ما ترشح من اراء طرحها حول الموضوع، ربما تشي أن هناك نوع من (السهولة) في تناوله وتطبيقه والتعاون معه.
     أن ترجمة الشعر من أصعب أنواع الترجمة ولقد تصدى شُعراءُ عربٍ وعراقيون الى ترجمة أعمال شعرية مهمة مثل ترجمة (أدونيس) لبعض أعمال سان جون بيرس، و سعدي يوسف لديوان (وتمان) (اوراق العشب) ، وتوفيق صايغ لرباعيات (اليوت)، وخليل خوري (لرامبو) وسامي مهدي في ترجماته المتعددة وغيرهم آخرين.أقول باختصار ، أن التزام المترجم بأصول وقواعد الترجمة مع وعي مسؤول لـ (حرية التصرف) فيها، يقوده الى قطف ( لهيب) العبارة وترك (رمادها)، أما عكس ذلك ، فسيقود الى ( احتفاظه بالرماد ويفوته اللهب) كما قال أحد كبار المترجمين الانكليز في القرن السابع عشر الميلادي. مخطئٌ من يظنُّ ان لا (ألهام) في الترجمة، فالفرق بين (الترجمة الملهمة والاعتيادية كالفرق بين الشعر والنظم)، كما يؤكد المرحوم الدكتور صفاء خلوصي في كتابه (فن الترجمة في ضوء الدراسات المقارنه).
     لقد استمتعت بقراءة الكتاب، واعادني الشاعر هاشم شفيق الى ايام الزمن الجميل، ومع ذلك فقد كانت هناك استطرادات ليست لها علاقة ب (بغداد السبعينات) بل لها علاقة بالسيرة الشخصية الادبية للشاعر مثل الفصول المتعلقة بالحديث عن بودابست، وبرلين، وبراغ. لذا كنت اتمنى ان عبارة(سيرة أدبية) موجودة على الغلاف الاول والداخلي أيضا، وليس فقط ظاهرة بحروف صغيرة في صفحة الاهداء فقط . تحية للشاعر / الكاتب على جهده النثري التوثيقي الجميل مثل (أقماره المنزلية) وقصائده الاليفة).

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب