من شرفة في (مقهى وكتاب) المقهى التي ابتدعها رهط من مثقفي بغداد، في إحدى ضواحي الكرادة الجميلة، أو التي كانت جميلة، ذات يوم، أجلس ساعة من الوقت المتبقي لي في العاصمة العباسية، بعد أن أمضيت الساعات الأولى من نهار الأمس في شارع المتنبي، أتصفح الكتب وأدخل المكتبات، هنا، في اكتساب الوقت، ربما ومضيعته، أيضا، توقفت طويلاً، شاهدا حياً على أفولين، أفول مدينة كانت الأجمل في الشرق الغامض هذا، وأفول مدٍّ ديني متشدد، شاءَ مَن شاءَ وأبى من أبى، فبغداد لحظة تتشكل من أفولين.
كان صديقي المخرج في تلفزيون العراقية، علي السومري أكثر حرصاً على إيصال زميلته مقدمة البرنامج الجميلة الى بيت اهلها، السومري القادم من ضاحية بعيدة ببغداد، أصرَّ على مرافقتها حتى سيارة الأجرة ،هي التي تسكن حي الوزيرية، مقدمة البرنامج التي ظلت تحدثنا بلطف ابنة بغدادية حدَّ العظم عن كلبها الصغير، عن مدينة سمعتها من فم أبيها وأمها، أكثر مما رأته منها. هنا، حيث تبلغ الثقافة العراقية مرتبة أجمل وأرقى. لا، ليس ما قام به صديقي المخرج من قبيل تقاليد أهل الجنوب، الذين يحرصون على حماية المراة من عثرات الطريق، أو مما يكرمون الضيف به، إنما كان ذلك عن وعي فريد، عن انتماء للحظة مستقبيلة ستأتي، عن محاولة في تخليد قيم الجمال وبناء الانسان وصناعة غد مشرق.
ان تكون في الكرادة، الاعظمية، الوزيرية… أية ضاحية من الضواحي البغدادية القديمة، ليس كما تكون في ضاحية اخرى من العاصمة، هنا، أنت تستطعم الكلمة وتستأثر بالجمال كله، هنا تبلغ الحكمة عظمتها في شجرة على الرصيف، في حائط قديم، في أعمدة الرخام التي تحاورك وتستدعيك. كانت الكرادة مسيحية، كردية، بغدادية كاملة، لكن عجلات الظلام المفخخة عملت الندوب في جسدها، تركت رمادها على الحيطان والارصفة وفي اعين المارة. كانت بغداد كلها تهرع كل مساء الى الكرادة، يدخلها ابناء مدينة الثورة والشعلة والحرية والعامرية والجهاد والشعب والاعظمية والكاظمية وبغداد الجديدة والبعض من سكان مدن الجنوب والوسط، من الشباب الذين وجدوا مشتركاتهم في واجهات المحال الباذخة والمطاعم والكازينوهات والنساء الجميلات، لكن هذا لم يرق لأمراء الدم فأرهقوا جسدها قضما ورصاصا ونارا.
في مقهى وكتاب، وفي الامكنة التي صنعها هؤلاء الشبان، وجعلوا منها محميات لأرواحهم، وراحوا يتعاطون على مقاعدها القصيدة واللوحة والقطعة من الغيم، ما هو جدير بالتأمل والعناية، هو نوع من محاولة لاستعادة بغدادنا التي يسعى الظلاميون من الفريقين الى طمس معالمها، ما يفعله الشباب بحضورهم البهي في الامكنة هذه، سعي ودأب عظيمان. كان صديقي الشاعر أحمد عبد الحسين يقرأ في ركن من المقهى كتاباً لم أتبين عنوانه،.أحمد، الشاعر الذي انتزع أحد قمصانه في ساحة التحرير ليتلطخ بالأمل، بعد أن تلطخت قمصان أقرانه بالدم هناك، مثله مثل العشرات والمئات من الشباب، الذين مازالوا يصرون على أن يشرعوا لنا نافذة في حيطان الظلام التي ترين على البلاد.
يكتب كثيرون، من اهلنا وأصدقائنا، الذين اختاروا المنافي او اختارتهم، ما يسمعونه ويشاهدونه على الشاشات، ويصدّقون ما تنقله لهم الصور، غير متوقفين عند عشرات ومئات المشاهد الكبيرة، التي يصنعها جيل من المتفانين، الاوفياء لعراقيتهم. قد لا يشكل فعل صغير في الثقافة شيئاً أزاء ما يعتمل في الساحة العراقية، سياسيا وأمنيا واجتماعياً، لكن، السؤال الأهم من ذلك، هو ماذا لو تخلى هؤلاء الشبان عن مدينتهم هذه، أية صورة للموت ستكون عليها؟
نقلا عن صحيفة المدي