بعينيها السوداوين اللتين اضعفتهما السنون تتابع نسيج خيوطها الصوفية بألتها الخشبية الصغيرة وتحركها بيدين بيضاوين وبين الفينة والفينة ترفع اليَّ وجهها الذي لم تستطع السنون ان تمحو آثار جماله رغم الخطوط التي امتدت فيه لتتم لي حكاياتها وكأي صبي في العاشرة من العمر كنت استمع بلهفة وشوق الى حكاياتها الطويلة التي يملئها الخيال جمالا ورونقا وكانت هذه الحكايات الحبيبة تزيدني محبة لهذه المرأة الطيبة وتزيدني تقربا اليها وتعلقا بها فكلما طرقت الباب قفزت قبل الاخرين ببشاشة وفرح .
هي كانت وحيدة في بيت صغير وكانت تحاول ان تدفع بعض السأم وتستعيد ذكريات الايام السعيدة من حياتها كلما حلت بين عائلة كبيرة مثل عائلتنا.
لا أدري كيف تبادر السؤال الى ذهني وكيف ادركت ان هذا السؤال سيؤدي الى سرد قصة حياتها القليلة الافراح الكثيرة الهموم وتساءلت انها تدعى أم عبد الله ولكني لم ارى عبد الله يوما فسألتها :-أين هو عبد الله يا خالة …؟
شعرت بعد هذا السؤال بأن غمامة سوداء طوقت مخيلتها وشوهت جمال اللحظات التي كانت منعمة بها وان هناك دمعتين ساخنتين تنحدران على وجنتيها .
ردت بهدوء :- انه في ارض الله الواسعة يا ولدي وبعد لحظات من الصمت اضافت مازال حيا يرزق فالحمد لله ولكن هو بالنسبة لي ميت….
عجبت لهذا الرد ولم اجد نفسي قادرا على ان استفيض في الاستيضاح
ولم تطل حيرتي اذ رأيتها وقد وضعت خيوطها جانبا وبدت لي مستعدة لآن تحدثني عنه ما شجعني لأقول لها ولكني لا أعرف شيئا عنه فهلا تفضلت بسرد خبره…
اعتدلت بجلستها ووضعت آلتها الخشبية جانبا لتقول لي :-
لقد كان عبد الله ولدي الوحيد عرفت فيه حب الآم لولدها وارقت الليالي الطويلة مسهده الى جوار سريره الصغير وانا ارقب اللحظات التي يهدأ بها وارسم له الف صورة جميلة للمستقبل كنت اهدهده بالآمال والاحلام وكان والده رحمه الله يحاول ان يخفف من غلواء تخطيطي للمستقبل قائلا :- انه اسير قدره كأي فرد آخر فلا تحاولي ان تكوني كالآلهة تقررين مصير الناس .
اجل هكذا كان يقول ليحد من الحالة التي انا فيها ولكني اغضب من كلماته واجيبه قائلة :- انه ولدي واستطيع ان اهيئ له الجو المناسب ليكون ناجحا في حياته .
لم يقتنع بهذا الجواب وكان يؤثر الصمت في اغلب الاحيان لكنه في احيان اخرى يرد علي بكلمات مفادها تستطيعين ان تفعلي ذلك ولكن قد يعيقك امرا ما او قد يكون هو غير مؤهل لما تأملين ,انه بعد طفل صغير سيرى الكثير في هذه الحياة وهو من يقرر لنفسه دون وصاية من أحد.
كم كنت غير راضية عن ذلك الموقف. ولكن كأنما كان والده على علم مسبق بما سيحدث فما ان مات والده حتى رأيت منه العجب العجاب فما نجح بدراسة ولا اكتسب مهارة في عمل رغم ان الكثير من الطيبين حاولوا الاخذ بيده الى ما يصلح شأنه لكنه بنزقه وتجبره خسر الاهل والاصدقاء وترك ديارنا الى دار الغربة ولم يكلف نفسه حتى مجرد السؤال عن أم رؤوم امنيتها في الدنيا ان ترى وحيدها الذي غادر دون وداع .