22 ديسمبر، 2024 7:19 م

بعض من الوفاء للرئيس الذي مات منفيا ومنسيا

بعض من الوفاء للرئيس الذي مات منفيا ومنسيا

انا لست من المناصرين للرؤساء لانهم مهما علا شأنهم فهم في نهاية المطاف يوضعون في خانة البؤساء فلو تفحصنا تاريخ العراق نجد  اكثر الرؤساء دمهم بات في ليلة  مراق فانتهى حكمهم وبات بلا مذاق تتناقل اخبارهم الالسن ونكتب عنهم باسلوب النفاق الا واحد مات بحسرته على وطن  اسمه العراق .. فالكتابة عن الرئيس المرحوم عبد الرحمن عارف ليست مبنية على مصالح او مكاسب نفعية ضيقة الافق بل هي كتابة للتاريخ لتتعرف الاجيال اللاحقة على جانبٍ من شخصية واخلاق هذا الرئيس الانسان بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني .. عاش الرئيس عارف بعد عودته للعراق  من المنفى في  تركيا ليعود في عقد الثمانينيات من القرن الماضي الى العراق  منسيا بعد ان كان منفيا ليعيش صامتا منقطعا للعبادة راعيا لاسرته واحفاده ممتنعا عن الظهور الاعلامي مبتعدا عن السياسة .. كان الرئيس عارف ابان تسلمه السلطة في العراق انسانا متسامحا فهو لم يوقع طيلة حياته على قرار اعدام بحق اي مرتكب لجريمة وحتى على الساعين للاطاحة به يصفح ويعفو .. 
ويقال  ان المرحوم الرئيس عارف وبعد  عزله عن الحكم عام 1968  من قبل حزب البعث  سلم الرئاسة دون مقاومة  ليس خوفا  على حياته  بقدر ما كان يخشى ان  تحدث مقاومة تزهق فيها ارواح اناس ابرياء حتى انه اخبر رئيس وزراءه  طاهر يحيى صبيحة ذلك اليوم  وقال له ” لا اقبل ان يوجه الجندي العراقي سلاحه لأخيه الجندي الآخر لأي سبب ولآجل أي شيء ” رافضا التشبث بالسلطة والكرسي مضحياًبدماء حراس القصر الجمهوري  هذه كانت  مباديء ذلك الانسان الوفي لشعبه  الذي كان يعالج الامور بحكمة  وعقلانية  حتى انه  لم يوقع طيلة حياته على اي قرار اعدام  ومن الحكايات التي يرويها  السائق الشخصي له يقول ” في احدى ليالي الستينيات كنت نائما في غرفتي الخاصة ضمن البناية المجاورة لدار اقامة الرئيس في القصر الجمهوري واذا باحد عناصر حماية الرئيس يدخل غرفتي .. ايقظني من النوم كانت الساعة تشير الى الواحدة بعد منتصف الليل ليخبرني بأن الرئيس يطلب احضار السيارة وتجهيزها للخروج .. قمت مسرعا من سرير النوم وانا اردد مع نفسي ..  اللهم اجعله خيرا ان شاء الله ..  واتساءل مع نفسي  ماذا حدث ليس من عادة الرئيس الخروج في مثل هذا الوقت .. وبعد ان ارتديت ملابسي  واحضرت السيارة جاء الرئيس واستقل مكانه في السيارة وقال لي ” توجه  بسرعة الى سجن ابو غريب .. اجبته  .. نعم سيدي الرئيس وطوال فترة الطريق كان الرئيس صامتا وسارحا بافكاره وملامح وجهه تبدو متعبة تدل على انه كان يعاني من الارق وعدم استطاعته النوم وعندما وصلنا الباب الخارجي لسجن ابي غريب ترجلت من السيارة واخبرت حماية السجن بأن السيد  رئيس الجمهورية جاء لزيارتكم .. تسارع عناصر الحماية الى فتح الباب الخارجي للسجن وادوا التحية العسكرية عند دخول السيارة التي وقفت امام ادارة السجن وخرج علينا مدير السجن مسرعا وقدم نفسه  سأله الرئيس عن المحكوم بالاعدام الذي صادق على قرار حكمه قبل ايام وسينفذ اعدامه فجر هذا اليوم فاجاب مدير السجن .. نعم سيدي لقد جهزنا كل مستلزمات عملية تنفيذ الاعدام .. صمت الرئيس عارف لحظات بعد ان سمع جواب مدير السجن ثم أمر باحضار اوراق المحكوم فورا .. وبعد ان اطلع عليها اشر عليها بقلمه  عبارة .. يلغى قرار الحكم بالاعدام وتعاد الاوراق الى المحكمة المختصة لاصدار عقوبة بديلة عن عقوبة الاعدام .. وعلق الرئيس قائلا .. ان الله تعالى خلق الانسان ووهبه  الروح ونحن البشر نأتي لننتزعها منه  مخالفين ارادة الله  هناك عقوبات جزائية سالبة للحرية ممكن تطبيقها على المجرمين .. وعلى اثر ذلك تم الغاء حكم الاعدام وبدل الحكم بالسجن المؤبد .. بهذه الروحية من التسامح ومخافة الله كان يتعامل الرئيس عارف مع ابناء شعبه حتى يقال انه لم ينتقل من داره  المتواضعة الواقعة في حي اليرموك  بعد تسلمه منصب رئيس الجمهورية ولم تكن الشوارع المؤدية الى داره مغلقة  باسيجة كونكريتية صماء مثلما هو حاصل حاليا او يسكن منطقة محصنة  بعيدا عن ابناء شعبه  وانه غالبا  ماكان  يتجول في العاصمة بغداد  بسيارته الخاصة دون  حمايات شخصية او مواكب مثلما حاصل اليوم  تزعج المواطنين  بصفاراتها  الشبيهه بنعيق الغراب

كان الرئيس عارف إنسانا محبا للناس عطوفا وشفيقا على الفقراء لاينسى الصداقة ابداً وعندما غادر بغداد إلى عمان مع عائلته واحفاده مهاجرا للمنفى الطوعي بعد عودته من تركيا  قرر أن يشغل داره سائقه القديم ودار ولده قيس أبناء هذا السائق الجنوبي الوفي من دون مقابل اجل انه الوفاء لمن يستحق الوفاء  .. نعم انه رجل لم يعرف الكبرياء ولا التعالي محبا للسلم والسلام أمينا على أرواح الناس ودمائهم