23 ديسمبر، 2024 1:00 ص

بعض أسرار الوجود!

بعض أسرار الوجود!

سنعرض جانباً آخر من فلسفتنا الكونيّة ألعزيزيّة كقصّة وردت في أديان و ثقافات عدّة بإختلافات في زاوية ألرّؤية لحيثيّاتها وأبعادها وفي ذلك لآيات لقوم يتأمّلون ثمّ يتفكّرون حتى يُؤمنون, و هي:
أثناء آلحياة يُواجه ألبشر .. بل كلّ مخلوق الكثير من المصائر والمصائب دون أن يُدرك منشأها وعوالمها بدقة و قلّ مَنْ يتعامل معها بإيمانٍ وصدقٍ كمنطلقٍ للنّجاح والبناء لعدم تأمله وتفكّره وتعمّقه في الأسرار التي تُبيّنها تلك أو هذه القصة الكونيّة التي سنُبيّن أبعادها, والتي نتائجها تُوافق زبدة آلأحاديث والآيات و آلأحكام آلكونية التي تُنادي بها آلأديان السّماويّة, وقد ذكر تلك القصّة التي تُمثّل محنة الأنسان, ألفيلسوف؛ الرّحيم (تولستوي)(1) ألّذي عانى و كأيّ فيلسوفٍ ألكثير – ألكثير بسبب ألمُقرّبين و منهم زوجته التي طردته ليبقى مُشرّداً و غريباً بلا مأوى ليموت على سكةٍ حديديّة لوحده, و هذا هو حال كلّ الفلاسفة عبر التأريخ ألذين يسبقون زمانهم فيُكَفَّرون حتّى يُقتلون!

فَسَقَ مَلَكٌ عن أمر ربّهِ, لِرفضهِ قَبضَ روحِ أرملةٍ كانتْ على يتيمين بسبب بحر ألرّحمة التي كان يضمّه بين جانحيه فأخذتهُ عاطفة الرّحمة التي فاض بها وجوده, مُتسائلاً مع نفسه: كيف أفعل ذلك مع هذه الضّعيفة وهي أم ليتيمين لا معيل ولا كفيل لهما سواها؟
فعاقبهُ الله تعالى بطردهِ من آلجّنان وإنزاله للأرض لتبدأ المأساة في ليلة شتائيّة باردة قارصة على أرض روسيا بدون جناحين وريش ليعيش كآلبشر, مشترطاً عليه الباري تعالى شرطاً لعودته إلى الجّنة, قائلاً: [لن تعود للمَلكوت ألأعلى ما لم تكشف جواب ألأسئلة التالية:
ألأوّل: مآ آلذي مَنحهُ الله للأنسان؟
ألثاني: مآ آلذي حُرِّمَ منهُ الأنسان؟
ألثالث: كيفَ تُقوّم الحياة لتسـتمّر؟ أو (مآلذي يُعطي للحياة معنى ليكون جديراً بآلعيش؟)

– من لطفهِ تعالى وبمجرد ما حطّ قدماه على الأرض قيّظَ لهُ إسكافيّاً(صانع أحذية) بأنْ أَمَالَ قلبهُ لهذا المسكين العاري ألّذي عاقبه الله تعالى؛ ليكون له رفيقا شفوقاً, فآواه وأطعمه وألبسه, وقال له: (أنت ضيفي حتى تجد لك سبيلاً), لحظتها حصل على جواب السؤآل الأوّل, ومفاده:
(ما آلذي منحه الله للأنسان)؟ حيث منحهُ حبّ آلآخرين وفعل الخير, لولا أنّ النفس تمنعه عادة بسبب آلبُعد عن الله تعالى.
إنّ أعظم ما أعطاه الله للأنسان, هي (الرّحمة و الحبّ و الميل للأنس مع مَنْ يُشاركهُ الحياة, هذا بآلنسبة للجّواب الأوّل!

– بعد ذلك قيّض الله تعالى لهذا الملك الميؤس ألمُعذّب أن يتعرّف على رجل ثريّ, من آلأغنياء؛ مُكابر؛ فخور؛ معجب بنفسه؛ بثروته التي كان يظنها ستخلده, و كان منّاعاً للخير و بخيلاً .. يأتيه السّائلون؛ ألشّحاذون, فيردّ أكثرهم و يعطي مَنْ عجبهُ القليل من العطاء الشحيح!
و في يوم من الأيام, بعث إلى الحذّائين وآلخياطين و سألهم أنْ يُصمّموا له حذاءاً من أرقى الجلود وبطراز خاص لا مثيل له, و كذا لباساً من أرقى آلأقمشة وعلى طراز ألبسة الملوك, وللفائز منهم بآلقرعة جائزة ثمنية, وأجريت المسابقة بينهم فوقعت القرعة على إسكافي واحد و هكذا خياط آخر واحد ليُنفّذا المهمة, في اليوم المحدود وبآلأجر المعلوم!
و في اليوم وآلساعة التي كانت مقررة تسليمهما؛ مات ذلك الغنيّ و لم يتلذذ أو يتباهى بلبس النعلين مع آللباس!
و بعد ما شَهَدَ ألمَلَك ذلك الموقف , توضّح لهُ جواب آلسّؤآل الثـاني الذي كان مفاده: مآ آلذي حُرّم منه الأنسان؟
إنّ أعظم ما حُرّم منهُ الأنسان, هي آلبصيرة لمعرفة حقيقة الحياة التي أساساً لا يملك ناصيتها ولا ناصية نفسه!
وإنّ حياةً لا تُساوي نعلين؛ لا تستحق كل هذا الاهتمام والحرص والبخل!
لقد أخطأ آلبشر في تحديد غاياته و نواياه الحقيقيّة من هذه الحياة, حين حدّدها و حجّمها براتب أو نعلين أو بدلة أو زوجةٍ جميلة أو شهوةٍ أو أبناءٍ أو مالٍ أو رئاسة لأجل تسلطه أو حتى مملكة يتفرّد بحكمها, لكونه لا يعلم هل سيستمر معها أم سيحرم منها لأنها ليست بإختياره!؟
لذلك يجب تحديد الهدف و الغاية السّامية من هذه الحياة بأنْ تكونَ لأجل أهدافٍ ساميّة خالدة و كبيرة تتجاوز الأهداف ألشّخصية و الحزبية و الفئوية الضيقة و كما شهدناه و نشهده عبر حياة الناس للأسف, و قد قال استاذي الصدر الأول, بقوله: [الناس يعيشون ليُعرفوا لا ليُفيدوا]!
و بذلك إكتشف المَلَك بأنّ الأنسان لا يملك كل الخيارات وقد يُحرم منها فجأةً بآلموت المحتوم, وهذا هو جواب السؤآل الثاني.

– أمّا جواب السؤآل الثالث: عَلَامَ يحى الأنسان؟ فيرتبط بما إعتقده ألمَلَك يَومَ ترحّم على المرأة الضعيفة ولم ينفذ أمر الله فيها بقبض روحها!
حيث تيّقن بعد قصّته مع الأسكافي ثم الغنيّ؛ بأنّ الله تعالى هو المُدبّر وآلمخطط والحاكم والبشر ألبخيل؛ الحسود؛ الظلوم؛ الجهول, لا يقدر ولا يفهم عواقب ألأمور والقضايا وغاية الأحداث إلا القليل من عواقبها لمحدوديّة عقله و ضعف بصيرته, وعرف إنّ كل شيئ يسير ضمن إرادة كونيّة و بقانون و منهج يتكامل و يتحدّد فيها عمل وأداء المخلوقات خيراً أو شرّاً بحسب عوامل عديدة تأتي في مقدمتها ألنّوايا القلبية, ألتي خلالها يُبيّن الباري موقفه في ألزمكاني الألهي المناسب لا ألزّمكاني البشريّ(2) الذي يختلف تماماً, و عندها إكتملت الصورة لدى ذلك المَلَك وإنتبه و تذكر يوم هبط على الأرض بلا جناح ولا ريش ولا مؤنة ولا لباس وهو في حيرة من أمره, يُفكّر: كيف أعيش؟ كيف أرتزق؟ سارحاً في دوامة الأسئلة, لولا قيّضَ الله لي ذلك الأسكافيّ ألرّفيق ألشّفوق الرّحيم, ليسعفني ممّا كنتُ فيه وإلا كنت من الهالكين!
ما يجعل لحياتنا معنىً؛ هو آلمحبة و العشق, لأجل رعاية و خدمة و مساعدة الآخرين, و أخيراً إكتشفَ حكمة الله تعالى في قراره بأخذ روح تلك العجوزة ألتي أُنهكت بسبب الآلام و المعاناة الطويلة فأراد الباري أن يريحها في جنات الخلد, و يسّخر آخرين لرعاية الطفلين بحسب مشيئته التي تتعامل مع النوايا والعشق .. أكرر ألنوايا و العشق فقط, وهو أدرى بعواقب الأمور و محدثاتها وبذلك إكتشف جواب السؤآل الثالث؛ [بكون معنى وفلسفة الحياة تتجسّد بالمحبة عبر آلتواصل وخدمة الآخرين, وحقا ما قاله الشاعر:
ألناس للناس من بدوٍ و من حضرٍ .. بعضٌ لبعضٍ و إن لم يشعروا خدمُ.
و ختاماً: لقد عرضنا عليكم أيّها المُثقفون والمفكرون جانباً محورياً من أسرار الحياة والوجود وعليكم أن تدركوا بأنّ هناك أسراراً عظيمة أخرى تختبئ وراء هذه الأسرار ألتي وضعناها بتصرفكم وسنعرضها عليكم مستقبلاً بحسب فلسفتنا وله الحمد وآلشكر على كل حال.
ألفيلسوف الكونيّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (الكونت ليف نيكولايافيتش تولستوي) عاش بين(9 سبتمبر 1828- 20 نوفمبر 1910) و أعتبر من عمالقة الروائيين الروس الذي ترك بصمات على منهج الثائرين, ومصلح اجتماعي و فيلسوف وداعية سلام وعضو مُؤثّر في تعليم الأدباء و الشعراء الكثير, لكونه من أعمدة الأدب العالمي , أشهر أعماله روايتي (الحرب والسلام) و(أنا كارنينا) وهما يتربعان على قمة الأدب الواقعي، فهما يعطيان صورة واقعية للإيمان بآلحياة حيث آمن بآلفكر السّلميّ المقاوم النابذ للعنف و النفاق و آلخبث, و تبلور ذلك في كتاب (مملكة الرّب داخلك), والتي نقلنا القصّة منها وهو العمل الذي أثّرَ على مشاهير و قادة القرن العشرين مثل المهاتما غاندي في جهاده الذي إتّسم بسياسة المقاومة السّلمية ضد العنف و الطبقية و الأثنية و التفرقة العنصرية.
(2) حقيقة هذا الأمر تدخل ضمن مسألة القضاء والقدر المعقدة, و لا مجال لطرحها هنا.