19 ديسمبر، 2024 12:11 ص

بعضا من ايام الدراسه – 4

بعضا من ايام الدراسه – 4

حول التنبؤات – كارل ماركس
كنت بحاجه الى المشاركة فى “سمينار متقدم- Hauptseminar” لاكتمال متطلبات مرحلة ما يسمى بـ “قبل الدبلوم- Vordiplom” ما يعادل البكالوريوس والتى يتعامل بها فى اطار الجامعه او القطاع الخاص وليس فى قطاع الدوله, اما الدبلوم فهو التحصيل العلمى الذى يعادل ” الماستر” ما هو متعارف عليه فى الدول الانكلوسكسونيه. كانت جميع السمينارات المعروضه قد استوعب العدد المحدد وكنت فى حيرة من امرى. اخذت ابحث عن مشاركه ووجدتها فى معهد التاريخ الحديث والمعاصر وسجلت فى القائمه مع بقية الاسماء. فى الجلسه الاولى قدم المشاركون,( 10) طلبه يعملون على انجاز اطروحة الدكتوراه ويعملون اغلبهم مساعدين فى المعاهد العلميه فى الكلية اوفى جامعة اخرى, هذا بالاضافه الى (6 ) اساتذه من الجامعه. تبين لى لاحقا ان حضورهم جاء عن رغبة ذاتيه وليس عن الزام. كانت هذه الجلسه مخيفه واصابنى كثيرا من القلق وراودتنى الكثير من الشكوك فيما اذا قد اخطأت الاختيار, ولكن عدم المشاركه يعنى الانتظار سنه كامله. كانت الجلسة الاولى للتعريف بالسمينار , اهميته والتعريف على مدى ولماذا تحققت او لم تتحقق النبؤات التى عرضت باشكال وازمنه مختلفه. ثم قدم المشاركون انفسهم ومواضيعهم وعملهم, بالاضافه الى الاساتذه الحاضرون. كانت الجلسة الاولى حول (منتيسكيو) وتنبؤاته حول امريكا وقدم المشارك الخطوط العريضه التى سوف يعالج بها والتى سوف تكون اطروحة الدكتوراه. تم تناول الموضوع من عدة جوانب خاصة كان الاساتذه من تخصصات مختلفه وكان الطالب جاهزا لكل ما يعرض وما يجب ان يعيد النظر فيه ويأخذه بنظر الاعتبار. كانت النقاشات تحصل وكانها فى فضاء افتراضى, خاصة الى اللغه الرفيعه العاليه التى كان يتم التفاعل معها كلغة اكاديميه مشحونه بمصطلحات اجنبيه, لاتينيه خاصة والتى سبب لى معاناة كبيره وكنت فى حقيقة الامر كالغريب عن هذا المحيط الاكاديمى الذى لم اصل اليه بعد, ولذلك كانت مشاركتى فى النقاش بسيطه جدا وكانت ترعى بانتباة كبير, ليس لما اتناوله وانما , كما يبدو لى عن حب استطلاع ورغبة فى معرفة ما يدور فى بلاد مهد الحضارات. اخذت المواضيع تتوالى عن مفكرى القرن الثامن- التاسع عشر بالاضافة الى مفكرين معاصرين كبار. فى الجلسه الرابعه كان موضوع ” تنبؤات كارل ماركس” لطالب الدكتوره والذى يعمل مساعد فى قسم التاريخ. كانت الخطوط العريضه لرسالته, ان ما تنبىء به ماركس لم يحصل سوى ان كان ذلك فى الحقل الاقتصادى/ الاجتماعى او السياسى, خاصة ما جاء به حول تردى اوضاع الماديه والاجور للعمال, ثم عرج على دور الطبقه العامله كطليعه ثوريه والخطأ الواضح لنظريه فائض القيمه, كما ان تنبؤاته قد قامت على مبدئية التفكير المادى الذى يعيق التفكير الحر لفضاءات اخرى. كان اسلوب عرض الطالب متعاليا متهكما الذى يحمل الكثير من السخريه لاحد اعمده الفكر الانسانى بهذه الطريقه السمجه. واخذت النقاشات تدور بصيغة الاعتراض الخجول والتأيد الواضحو كان الاساتذه متحفظين فى ارائهم ولكن الطلبة كانوا اشد حماسا فى دعمهم لفرضيات زميلهم. لقد حصل بعض الهدؤ وطلبت المشاركه. فى الحقيقه ان معلوماتى عن الماركسيه بسيطة جدا وحضرت بعض الحلقات التى قدمها بعض الطلبة حول ” علم اجتماع نقدى – مدرسة فرانكفورت- الانظمة التوتاليتاريه ” التى كان يذكر فيها ماركس كثيرا وكذلك ادورنو وهوركهايمر…الخ بالاضافه الى ما ذكره بعض الاساتذه الذى وصفوا ماركس بـ “عملاق القرن التاسع عشر”. لقد استقبل الاستاذ المسؤل عن السمينار بترحيب كبير: تفضل تفضل سيد السهيل: ذكرت بان قراءة السيد كانت احادى الجانب ولم تاخذ بعملية التفاعل المتبادل بين ما يحدت وما يخطط لتطبيقه, لا احد ينكر من ان العمال مع تطور واستمرار الثورة الصناعية ونهب ثروات المستعمرات من قبل اصحاب العمل قد جنوا ارباح كبيرة وتعاظمت ثرواتهم ونهب المستعمرات قد عمل على بناء وتسريع العملية الاوليه لتراكم الرأسمال وقوى الانتاج. اذا قمنا بمقارنه بسيطه فى تحسن الوضع المعيشى لطبقة العمال واصحاب العمل فان النتيجه واضحة للعيان, حيث لم تتحسن اوضاع واجور العمال كثيرا ولايمكن مقارنتها بما حضى ووصل اليه احاب العمل. هنا لابد من الاشاره بأن ما جاء به ماركس حول فائض القيمه لم يكن خطأ مطلق, خاصة ان اصحاب العمل يعرفون جيدا مصدر الارباح التى يحصلون عليها, انى اعتقد بان هنرى فورد والصناعيين الامريكان, ثم كروب, سيمنس وتيسن من اساطين الصناعة وروؤس الاموال كانوا على علم بمقولات ماركس وكانوا يخططون للتخفيف منها, ثم هنا تبرز عبقريتهم, رفعوا اجور العمال, فتحوا مجمعات تسويقيه وسينمات للعمال ولاحقا شيدوا البيوت البسيطه فى اطراف المدن لعمالهم واعيدت الاجور التى دفعت لهم ثانية الى دورة رأسمال. كان هنرى فورد ثانية الرائد فى فى هذه الاصلاحات . ان السيارات التى تنتجها معامله كانت مقصوره على اصحاب الدخول العاليه, واخذت الطاقة الانتاجيه فى تصاعد, خاصة مع استخدام (نظام القايش الدوار), تضاعف انتاج السيارات واخذت تبحث هذه الاعداد الجديده عن سوق, زبائن, وكان هؤلاء امامه. وضع فورد صيغة البيع بالاجل للعمال.ان الاوضاع قد تغيرت تماما, العامل ابح يسكن فى بيت, يتسوق ويزور المقاهى والسينما فى استثمارات فورد, ثم اخذ يملك سياره, حتى لو كانت بالتقسيط, اخذ انتمائه الطبقى يتأرجح ومع الزمن اخذ يرفض ان ينسب الى الطبقه العامله وانما يتطلع نحو طبقة اخرى. ان الصناعى والستراتيجى الكبير الذى يقدم” الاصلاحات ” لخير للاخرين هو فى الحقيقه المستفيد الاكبر ويقدمها لشخصه والذى وجه ضربة عنيفة للانتماء الطبقى وتدجين الطبقه العامله. بالتأكيد ان هذه العملية مستمره وتاخذ اشكال وصيغ جديده, ان مبدا العمل الجماعى وخصوصية جنى الارباح وما يترتب على ذلك مازال مستمرا وسوف يستمر الى امد غير مسمى. كان الهدؤ اثناء المداخلة تاما, ربما لم يتوقع الحضور منى هذه المشاركه ” النوعيه”, شكرنى الاستاذ المشرف ورحب كثيرا بالمشاركه بالافكار التى طرحتها ووجه كلامه الى طالب الدكتوراه ان يعيد فرضياته بما قدمه السيد السهيل من وجهة نظر اخرى. لقد كنت سعيدا جدا من ان مداخلتى وجدت قبول وصدى لدى الاستاذ المشرف وبعض الاساتذه الاخرين. ان التسجيل على الدكتوراه, فى اى جامعه, اى معهد, ومع اى استاذ ليست عملية اكاديميه فحسب وانما سياسيه وترتبط بالموالاة والاتجاه العلمى وتكوين قوة اكاديميه نوعية على صعيد الكلية والجامعه.
انى لا ادعى معرفتى بماركس اكثر من الاخرين, ولكن نفى وابعاد اعمال ماركس عن الجامعه كان امرا واقعا, ولم يكن فى قسم الاجتماع وبقية اقسام العلوم الانسانيه استاذا بمنهجية ماديه, خاصة عملية حرق جميع الادبيات اليساريه من قبل النظام النازى لانها كما وصفت مضاده وغريبه عن العقل والذات الالمانيه, كما ان استاتذة مدرسة فرانكفورت النقديه قد هاجروا الى امريكا وبعض الاخرين قد لقى حتفه فى محاولة الهروب. ان النظريه الماركسيه كانت حاضرة فى بحوث ونشاط المثقفين ولكن لم تطرح فى الاسواق والجامعه. كانت الستينات وحركة احتجاج طلبة الجامعات والمطالبة بعملية اصلاح النظام الجامعى واعادة كتابة التاريخ قد قادت بالضروره الى اكتشاف ماركس والماركسيين فى محاوله لفهم المتغيرات المجتمعيه وايجاد حلول لها.
كان النشاط العلمى فى قسم الاجتماع يدور حول اهلية علم الاجتماع الامريكى وتصدره فى تشكيل المواد الدراسيه فى الجامعات الالمانيه, بالرغم من مكانة وحضور اعمال ماكس فيبر بدأ الطلبة فى الرجوع الى هذا الانجاز العلمى الضخم للعلماء الالمان ووجد العديد من اقسام الاجتماع فى الجامعات الالمانيه لعدد من الاساتذه الماركسيين والليبراليين الذين قدموا عرضا للماركسيه التى دخلت ضمن المنهج الدراسى وكذلك لمدرسة فرانكفورت النقديه, كما نشرت دراسات نقديه كثيره حول الاوضاع المجتمعية فى المانيا الغربية بمنهجيه ماركسيه. منذ بداية الستينات اخذ التأكيد على علم الاجتماع من قبل احد قادة الحزب الاشتراكى الديمقراطى SPD” ” ( هلموت شميت) الذى اصبح مستشارا لالمنيا على امل تطوير جيل من الدارسيين النقديين, وقد حصل ذلك فعلا, وكما يبدو فان هذا التطور لم يكن مرغوبا من قبل قوى الاحزاب المسيحيه . ولم يعد علم الاجتماع منذ سنين تخصصا مرغوبا به لان فرص العمل التى ترتبط به, رغم امكانياته الكبيره محدوده جدا.