23 ديسمبر، 2024 5:34 ص

بعضا من ايام الدراسه الجامعيه – 1

بعضا من ايام الدراسه الجامعيه – 1

تعد الدراسه الجامعيه مرحله متقدمه فى الحصول على المعرفه, مناهجها, اساليبها وحقولها, بالاضافه الى الاعداد الاولى للتخصص المهنى والذى يمكن ان يتسع ويعمق فى الحصول على تخصصات دقيقه, هذا بالاضافه الى امكانية تطور الوعى الذاتى والالتزام والمسؤليه الاجتماعيه. ان الدراسه فى الجامعات الاوربيه تفتح الفضاء واسعا للحصول على مختلف صنوف المعرفه والخبره, علميا واجتماعيا ومعاصرا لمن سطمح اليها.
كنت فى منتصف الستينات ادرس فى احد جامعات المانيه الغربيه,” جامعة الرور- بوخوم, Ruhr Universität-Bochum” وكما هو معرف فان منطقة الرور كانت منذ بدايات الثوره الصناعيه مركزا رئيسيا لصناعات الفولاذ والمناجم والصناعات التحويليه. ان هذه الهيكليه قد تغيرت بقوة وبسرعة كبيره منذ وفرة البترول, خاصة النفط العربى واسعاره المنافسه وسهولة وصوله وامكانياته كماده تحمل الطاقه والعديد من المواد الاوليه لقيام صناعات كيمياويه بالاضافه الى خلق فرص عمل لمئات الالاف, تعويضا عن فرص العمل فى مناجم استخراج الفحم التى تم ايقاف العمل فيها تدريجبا ولكن بخطط مدروسه.
كانت الستينات والسبعينات عامرة بالحراك الشعبى والمعرفى, فقد كانت سنين حكم المستشار اديناور” محافظ, كاثوليكى وضد الشيوعيه” قد حققت تطور اقتصادى كبير, ارتفاع القوه الشرائيه, و تحسين الاوضاع المعيشيه ….الخ الا انه لم يقدم بديلا فكريا وتنظيما جديدا وانما اعادة الماضى بصورة جديده قى اطار الارتباط بالغرب والمصالحه مع الصهيونيه العالميه واسرائيل. ان الاحزاب المسيحيه المحافظه وحزب الراسماليه, الديمقراطيين الاحرار FDP, لم يعيروا اهتماما, فكريا ووظيفيا كافيا بالتغيرات المجتمعيه ما بعد الحرب, من ان تحسين الوضع المعيشى وامتلاك سيارة الفلكس واغن, بالاضافه الى انطلاق السياحه الجماهيريه نحو ايطاليا واسبانيا…الخ تعتبر انجازات كبيره وقاعدة متينة للسلام المجتمعى. فى المقابل فان تسليح المانيا وتكوين جيش اتحادى واستمرار شخصيات من النظام النازى فى الوظائف والمناصب الكبيره كانت دائما موضع تساؤلات وصراع من قبل قاعدة واسعه من المثقفين فى اطار الديمقراطيه, من ناحية اخرى فان جيل الشباب الذين لم يعيشوا سنين الحرب وهم الان طلبه فى الجامعات واداريين وفنيين فى قطاعات الدوله والحقول الاقتصاديه, هؤلاء الذين تمتعوا بفضاءات من الحريه والسفر والتعرف على شعوب وثقافات اخرى طالبوا اولا باصلاح نظام الجامعه الذى استمر كما كان عليه سابقا, من ناحية هيكله التنظمى وكوادره العلميه . لقد تكونت بنفس الوقت لجان طلابيه تدرس التاريخ الالمانى ولماذا وكيف حصل النازيون على الحكم وما هو موقف الاباء والامهات اولا ثم ما هى مساهمة المسؤلين ومدى مشاركتهم وتايدهم لجرائم الحزب النازى. فى هذا الاطار نشطت فى اجواء الجامعات حركة نقديه والتى اخذت تعرف بـ ” اعادة كتابة التاريخ” التى تطورت مع مشروع الاصلاح الجامعى الذى استمرت الاجتماعات والنقاشات حوله سنين طويله تبلورت حركة الطلبه واخذت ابعادا سياسيه محلية وعالميه, خاصة مع ما تطورت حركة الاحتجاج فى كبريات الجامعات الامريكيه وفى العالم الغربى واليابان بما عرفت بـ ” حركة الشباب والاحتجاج العالمى” التى اخذت تنشط بشكل خاص ضد الحرب الامريكيه فى فيتنام, ضد الاستعمار ومتضامنه مع قضايا “العالم الثالث”. كان وظيفة اتحاد الطلبه فى الجامعه رعاية مصالح الطلبه وتنظيم العلاقه مع رئاسة الجامعه وكان له مقعد يتمتع بقرار التصويت والرفض فى رئاسة الجامعه والكليات, كما كانت له لجان داخلية تقوم بمختلف انواع النشاطات العلميه والاجتماعية, وكان يصدر جريدة اسبوعيه بـ 3000 نسخه و بـ 8 صفحات توزع على الطلبه مجانا وكذلك توزع على عدد من الثانويات. كنت ضمن قريق اللجنة الطلابيه ” ASTA” لمدة سنتين وكنت احد اعضاء هيئة التحرير, كانت الجريده وسيلة للتعريف بموقف اللجنه الطلابيه من ما يحصل فى الجامعه بالاضافه الى سياسه حكومة الاقليم والحكومه الاتحاديه,وكانت تصلنا مقالات ومساهمات من االطلبه تحضى بالنشر ولاهتمام . كان الزميل “كلاوس دلمان” وانا بعد ان نجمع وننظم المحتويات نقصد المطبعه فى مركز المدينه. فى احد الاسابيع كان الزميل كلاوس مشغولا مع عامل المطبعه وكنت مشغولا بامر اخر, واذا كلاوس يأتى ليخبرنى ان هناك نقص فى المادة وبحاجه الى مقاله او عمود لتكتمل الجريده ويمكن طباعتها.
كانت الدوله ووسائل الاتصال الجماهيريه والاذاعه والتلفزيون يبثون الاخبار بشكل متواصل ومع نشرات الاخبار التى تبث كل ساعة. ان القضيه تتعلق باختطاف سفير المانيا الغربيه فى احد دول امريكا اللاتينيه من قبل احد حركات التحررالتى تأخذ باسلوب حرب العصابات. مضت يومين على الاختطاف دون ان يعلن المختطفون الاسباب وشروط الافراج عن السفير الالمانى. لقد تبلور رأى عام يرفض ويندد بالعمليه واستخدام القوة, الارهاب والعنف لتحقيق مطاليب سياسيه, خاصة ان المانيا تعتبر نفسها بعيدة عن الاستعمار والعدوان وليس لها نوايا عدائيه مع قضايا العالم الثالث. ان رأى انسان الشارع والسياسى العتيد والمثقف المعروف قد اتفقوا جميعا على ان قضية الاختطاف لاحد مرتكزات السياده تمثل اهانه كبيره لالمانيه وانتهاك للمواثيق الدوليه وخاصه فيما يتعلق باستخدام القوة والعنف وفرض الامر الواقع من اجل تحقيق اهداف سياسيه. ان هذا الراى العام, العاطفى والمنفعل اصبح طاغيا وقمع اى رأى مخالف ينظر الى القضيه من واجهة اخرى. كنت اتالم كثيرا عما يحيط بى وما اسمعه فى مناسبات كثيره, خاصة امامى واعيش مع الرأى العام حول قضايا العالم الثالث وخاصة القضيه الفلسطينيه والفلسطينين مع مختلف الطروحات والتواريخ والتسميات التى يتعامل بها حتى المثقفين دون اعتبار للحقائق التاريخيه. بعد يومين قدمت الحركه شروطها لاطلاق سراح السفير والتى كانت تؤكد على اطلاق سراح عدد من رفاقهم المسجونين والمعتقلين منذ بضعة سنين دون محاكمه وحددت للاستجابه بضعة ايام فقط, الا ان شيئا لم يحصل, واعطت الحركه مدة ثانيه ولم يحصل شيئا, واخيرا نفذوا حكم الاعدام بالسفير. هذا الحكم اقام الدنيا ولم يعيدها الى الهدؤ ثانية. لقد تسربت اخبار فى ” النيويورك تايمس” من ان السفير الالمانى كان عميلا لدى الـ ” السى اى اه-CIA ” وكان يقوم بتحريات عن الحركه واعضائها لحساب المخابرات الامريكيه.
كان زميلى مشغولا بامور فنيه وطلب منى الكتابه, والحقيقه فقد كنت مهيأ نفسيا لطرح وجهة نظر اخرى حول موضوع الساعه وبدأت الكتابه مباشرة. فى البدايه اشرت الى الصعوبات الكبيره لعمليات التحرر فى العالم الثالث, خاصة وانها لاتقاوم حكوماتها المحليه وانما ايضا حكومات الجوار التى لا تبخل فى تقديم المساعدات الماليه والسلاح والمشوره للقضاء على الحركه, وليس بعيدا ان تتدخل قوى عالميه بمختلف الاشكال. ان الشعوب ملزمه بتطوير اساليب النضال والمقاومه بشكل مستمر مستفيدة من تجربتها التاريخيه وتجربة شعوب اخرى, خاصة وان صناعة القرار حول حركات التحررتخضع محليا وعالميا الى تشويه وتجريم من قبل ” وعاظ السلاطين”. ان حركات التحرر ملزمه بتطوير اساليب جديده تتعامل مع سرعة التطورات العالميه والمصالح المشتركه, انها ملزمه وفى احيان كثيره فى استخدام اساليب وصور غير مألوفه للتعريف بها, على الاقل ان للتعريف بها وتطرح نفسها على ساحة الاحداث العالميه حتى فى اطار هذا الراى العام العالمى المغيب فى كثير من الاحيان والتعريف باوضاع القهر والظلم والاستعمار التى تعانى منه شعوبها, بالاضافه الى تحقيق اهداف اوليه تعتبر مهمه جدا للحركه وضمان تماسكها الداخلى. لقد اشرت ايضا الى ان اوربا والغرب بشكل عام يستخدم عدة معايير لقضية واحده فى مواقع مختلفة من العالم وفقا لمصالحها المباشره والمستقبليه, وعلية فأنه من الصعوبه بمكان ان نقوم بتجريم حركة التحرر, المختطفين دون الوقوف على الاسباب التى فرضت عليهم حمل السلاح اصلا. …الخ
بعد منتصف الليل تمت طباعة الجريده وتوجهنا نحو الجامعه وفى الصباح قمنا بتوزيعها على الكليات وبشكل خاص فى مطعم الكليه” المنزا” الذى يقصده حوالى 1500 طالب وكذلك عدد كبير من الاساتذه والاداريين. لقد وضع كلاوس المقاله كـ ” المقال الافتتاحى” الذى شغل عمودا كاملا ولم يشير الى كاتب المقاله, ان المقاله اثارت الغضب والاحتجاج والاستنكار وفجرت اجواءا للنقاش, تبادل الراى والاتهام. كان صدى المقاله جديرا بالاهتمام, حيث فتح المجال والنوافذ نحو وجهات نظر اخرى اخذ ت تنتقد وتستنكر بشدة ارتباط السفير بالمخابرات المركزيه الامريكيه, جماعات اخرى انتقدت هذا التحشيد الاعلامى دون وضع تساؤلات حول الموضوع وعن اسباب الاختطاف وليس اخير فان الطلبه وعدد من الاساتذه والاداريين لم يتركوا المطعم مباشرة, وابدوا اهتماما بما يحصل من تجمع ونقاشات وجلسوا على غير المعتاد فترة طويله وجلست مع البعض منهم للنقاش دون ابداء حماس كبير. كان هذا اليوم يوما حافلا لبوادر من عملية وعى وتنوير ونقاش, وتوزعت الجريدة بسرعه كبيره بعدما كانت لم تحضى بكثير من الاهتمام وقمنا باعادة الطباعه لـ 2000 نسخه لان عدد من الثانويات ابدوا رغبتهم فى توزيعها فى مدارسهم. فى الاسبوع اللاحق اصدرنا العدد الجديد ونشرنا عددا من رسائل القراء بما فيها الناقده المستنكره والمؤيده الواعيه. ان جريدة طلبه جامعة بوخوم قد تجاوزت الرتابه المعهوده واخد التطلع ينمو وينتظر افكار ومواقف جديده.
بعد حوالى 4 اشهر وصلت لكل اعضاء هيئة التحرير دعوة قضائيه تتهمنا بالتحريض على العنف وتأيد الارهاب بما يخالف قوانين واعراف الدوله والمجتمع ولا يتناسق مع قواعد القانون الدستورى. ان اى قرار حكم يمكن ان يصدر من المحكمه ضدى يجعل اقامتى فى المانيا غير ممكنه وبذلك يمكن ترحيلى الى العراق, وهذا قرار يمكن ان يجعلنى من الارهابين او ما شاكل ذلك وبذلك فان الحياة والوجود فى خطر كبير. لقد اجتمعت هيئة تحرير الجريده واتخذت قرارا يبعدنى عن القضيه. فعلا, فى يوم المرافعه حيث رافقنا اكثر من 150 طالب الى المحكمه, قدم رئيس الاتحاد بعزل الدعوه, الاتهام ضدى معللا ذلك بأنى كنت مكلف فى الحصول على الاعلانات لتمويل الجريده ولا علاقة له بسياستها. لقد تم موافقه المحكمه وانتهيت من القضيه. اما عن الزملاء الالمان فقد تبنى احد كبار المحامين القضيه التى انتهت بحكم غرامه 200 مارك لكل محررعلى ان تقدم تبرعا للاعمال الخيريه.
كانت هذه القضيه تجربه مهمه جدا بالنسبه لى اعتز بها كثيرا وتعرفت مباشره على مسلمة التضامن والمسؤليه المشتركه مع الاصدقاء الالمان, من الذين يتشاركون فى الرأى والموقف وقدرة الوعى فى الوقوف وتجاوز الامور الصعبه.