19 ديسمبر، 2024 3:06 ص

بعد (33) عاماً من وفاته… ماذا بقي من سارتر؟!

بعد (33) عاماً من وفاته… ماذا بقي من سارتر؟!

الحديث عن فيلسوف الوجودية، جان بول سارتر (1905- 15/ نيسان/ 1980)، حديث متشعب لا يخلو من مشقة ثقيلة كما لا يخلو من متعة. فالرجل تمتع طوال حياته حتى وفاته بالشهرة عبر ارجاء المعمورة، ليس لانه صاحب اتجاه فلسفي فقط بل لانه كان ذا شخصية محورية متعددة المواهب والمواقف السياسية والاجتماعية.. اذ الف في الفلسفة والاداب والرواية والسيرة الذاتية والسياسية وعلم النفس والتحليل النفسي وغيرها من مجالات المعرفة.
تصدى لقضايا اساسية تهم مستقبل الانسانية والانسان، غطى واخصب وحفز مرحلة بكاملها من مراحل ما بعد الحرب العالمية الثانية في اوروبا عموماً وفي فرنسا على وجه الخصوص ، حيث خاض في تحولات سياسية وفكرية خطيرة اتسمت بقدر كبير من التناقضات والاشكالات… فقد كان يقود المظاهرات السياسية مندداً بالظلم ورافضاً للاحتلالات الاستعمارية…. ولعل ابرز مواقفه السياسية، موقفه المضاد للاستعمار الفرنسي في احتلال الجزائر، وموقفه ضد اميركا في احتلالها لفيتنام… وقد ادت به هذه المواقف بالاضافة الى مواقف شجاعة اخرى الى رفض جائزة نوبل للآداب.
وعلى ضوء ما تقدم… يمكن القول، بان سارتر اقرب من اي مفكر فرنسي في وقته الى مفهوم المثقف العضوي الذي تحدث عنه غرامشي في مختلف كتاباته الايديولوجية.
ومن المسائل المثيرة للاهتمام، ان سارتر استطاع ان يسرق الاضواء من كبار فلاسفة عصره، وفي مقدمتهم الفيلسوف الالماني مارتن هيدجر الذي يعتبر كتابه (الزمن والوجود) الارضية الصلبة للفلسفة الوجودية والمنهل الذي شرب منه سارتر خاصة اثناء تأليفه لكتابه الفلسفي المركزي (الوجود والعدم).
احد مجايليه قال: ان سارتر هو عبقري القرن العشرين، بينما احدهم شكك بذلك ورأى في هذا مبالغة ولم يعتبره الا صحفياً لمرحلة عابرة من التاريخ. وفي وقت رأى فيه البعض انه كان بارزاً ككاتب سياسي وادبي اكثر منه كفيلسوف، بينما رآه الاخرون انه كان رائد الاشتراكية العلمية التي جعلته يدعم المنشقين في دول اوروبا الشرقية فترة الستينات.
اسهم عن سابق تصور وتصميم في تيئيس شبيه ما بعد الحرب العالمية الثانية وشل قدرتها ودفعها الى مغادرة القيم الاخلاقية باعتبار انه ليس هناك من قيمة اخلاقية مطلقة وعالمية، وما على الانسان الا خلق القيم التي ترضي نزواته واهدافه. تلك هي واحدة من الاطروحات التي تسلح بها الوجوديون في الخمسينات من القرن الماضي بتأثير سارتر نفسه.
لقد اراد سارتر ان يكون لمذهبه الوجودي عمق انساني يفضح فيه دعاة الانسانية التقليديين الذين سخروا النزوع الانساني العام لصالح مطامعهم وشهواتهم.. فقد جاءت اعماله التي اعقبت عهد تأسيس الامم المتحدة وسياسات التدخل الامبريالي في الشؤون الداخلية للشعوب الى ربط بعضها بسياسة الاحلاف الاستعمارية.. جاءت كل هذه الاعمال رافعة شعار الانسانية والحفاظ على الحقوق الاساسية للشعوب، ولسان حاله يقول: ” لقد رأيت الانسانية التقليدية غطاءاً لستر عورة الاستعمار” .
لقد وقف سارتر في وجه دعاة الانسانية الزائفة وراح يصوغ تصوراته عن الأنسنة الحقيقية، فاصطدم بالمفكرين البرجوازيين وبالاشتراكيين وبالرديكاليين وحتى بالشيوعيين والماركسيين ذاتهم.
وبهذا، فانه لم يخلف عقائدية ثابتة خالدة تحمل بصماته.. حتى الذين ادعوا انهم تلاميذه ومكملوا رسالته فترة من الزمن، انكفأوا بعدما تجاوزهم التطور والتحولات الاجتماعية والاقتصادية.
اما مواقفه السياسية، فهي الاخرى لا تقل تناقضا عن مواقفه الفكرية. صحيح احتج ضد السياسة الاميركية وتدخلها في فيتنام، وضد السياسة الفرنسية في الجزائر، وضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، الا ان موقفه من القضية الفلسطينية اتسم بقدر كبير من المغالطة الفكرية والسياسية، فلم يعر سارتر- الانساني جداً- عرب فلسطين في شتاتهم وكفاحهم من اجل حقهم في تقرير مصيرهم اي التفاته، بل وقف يبارك اطماع الصهيونية التوسعية بعد حرب حزيران 1967، فعند زيارته للكيان الصهيوني، أكد في مؤتمر صحافي على ضرورة أمن الكياني الصهيوني قائلاً: ” ان كان ثمة ما ينبغي ان نمنع حدوثه فهو حرب جديدة ضد اسرائيل.
يبقى ان علاقته بالفيلسوفة الفرنسية الوجودية سيمون دي بوفوار، التي انتهت بالزواج، لم تسلط عليها الاضواء كما ينبغي، لان اغلب ما كتب عن هذه العلاقة اكتفى بالجانب المتمثل في الصحبة الفكرية المبدعة، مهملاً الظلال العاطفية التي نمت تحتها تلك الصحبة الفكرية والفنية. وقد ذكر احد معارفه بان سارتر ومريدية في المدرسة العليا بباريس في الفترة ما بين 1928- 1931، كانوا بمثابة عبير الرومانسية، الشيء الذي جعل الطالبات مفتونات بذلك كل الافتتان. بينما دي بوفوار كتبت في احدى صفحات مذكراتها تصف فيها سارتر قائلة بان مظهره لم يكن مغرياً، ولم يكن قادراً على جلب الاحترام لاول وهلة، اذ كان سارتر صغير الحجم، الى جانب كونه يعرج في مشيته، وبالاضافة الى ذلك فقد شّوه التبغ اصابعه واسنانه، ولكن هذا المنظر الخارجي ليس كل جوهر فيلسوفنا، اذ تمتع- كما اعترفت دي بوفوار- بصوت موسيقي وثقافة واسعة وعميقة لا يمكن اختراقها.
في عام 1929، مرت دي بوفوار بمحنة وفاة ابيها واصبحت ترتدي اللباس الاسود حداداً عليه حتى داخل حرم جامعة السوربون. وفي هذه الظروف القاسية عليها ارتمت في احضان الكتب الادبية والفلسفية والتاريخية، وراحت تعبُّ من مناهلها العلم والمعرفة بدون حدود، وتمكنت من كسب احترام اساتذتها وزملائها وزميلاتها في السوربون.
ومما يذكره كتّاب سيرة سارتر ان دي بوفوار كانت تحلم ان تقبلها مجموعة سارتر في الجلسات الفكرية التي كانت تعقدها من وقت لآخر لمناقشة قضايا الفكر والاداب والفلسفة، ولكي تحقق حلمها ذاك قامت ببذل الكثير من الجهود على صعيد التكوين الفكري، وفي النهاية اصبحت عنصراً مهماً في حلقات النقاش، ووجهاً بارزاً في الحياة الثقافية الباريسية.
تؤكد دي بوفوار في كتاباتها المختلفة بان سارتر عبقري، وان ثقافته تفوق ثقافتها، وقد ادت تصريحاتها هذه الى خلق اعداء لها داخل السوربون وخارجها، واكثر من ذلك فقد قالت في يوم من الايام، بان الجلوس مع سارتر امتياز لا يفوته اي امتياز.
وفي الواقع يعتبر لقاء سارتر ودي بوفوار بمثابة لقاء الفلسفة بالفن، والعلوم بالآداب على نحو تكاملي، وليس مجرد زواج عادي بين ذكر وانثى. ويمكن النظر اليه على انه وقفة جميلة بين الافكار الفلسفية الخلاقة التي ما تزال تثير الكثير من الجدل في حياتنا الفكرية المعاصرة. وسوف تظل كذلك في المستقبل.
ان العالم بعد هذه الاعوام من وفاة سارتر تغير كثيراً دون ان يتأثر بمخلفات سارتر التي كان يعتقد كثيرون انه بها سيعيد الحكم للشعب وسيصنع الثورة وتنشيء تعاليمه التطور الشامل، وتقيم اشتراكية حقيقية اكثر صدقاً؟!
فلو عاد سارتر اليوم، لوجد عالماً آخر لا علاقة له بعالمه، وعالماً لم يتأثر بتعاليمه. فقد مد سارتر يداً الى الناس رفض اكثرهم ان يصافحها. فكان يتصدى لمشاكل العصر بشكل سطحي، حتى ليخطئ امام التاريخ مع سعيه لان يطرح ولو دون توفيق، قضايا خالدة وفاعلة في وسطه ومجتمعه، وكان ينكر اي حق لورثة له محتملين… الا اننا مدينون له بارادته الثابتة وعناده كفيلسوف. انه اكد دور الفرد والمسؤولية المطلقة للانسان.
فبعد هذه السنوات من وفاته، ومع كل ما حصل في العالم، يبدو ان سارتر قد اصبح بلا ورثة، وحتى بلا تلاميذ، على الرغم من ان له مكانة اثيرة لدى طائفة كبيرة من المثقفين العرب الذين رأوا فيه انه يتصدى لقضايا اساسية تهم مستقبل الانسانية والانسان، ويتعرض لمشكلات نحن معنيون بها كعرب اكثر من غيرنا في صراعنا الطويل مع قوى الامبريالية التي تعرقل تفتح الانسان فنياً وتمارس في وجهنا صنوف العذابات القومية والاجتماعية.. وذلك وصولاً الى كسب معركتنا معها، وبالتالي تحقيق آمالنا كلها.
اجل، بعد كل هذه السنوات من وفاته.. ماذا بقي من سارتر الحائز على دكتوراه شرف من جامعة القدس العبرية؟!!
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات