الحديث في الأوساط العالمية يدور حول تدمير العراق ، فهناك إجماع بين معظم المحللين الاستراتيجيين على خسارة هذه الحرب الكاذبة ودخول القوات الأمريكية ومن تحالف معها ارض الرافدين ، فلا جدال حول مدى تدهور الأوضاع في العراق ، واستحالة تحسنها في السنوات المقبلة ، فقد تحول البلد كله إلى مقبرة جماعية للعراقيين بالدرجة الأولي والغزاة بالدرجة الثانية ، وأرقام ألقتلى والجرحى في تصاعد مرعب .
إدارة الرئيس الأمريكي التي مزقت العراق واحتلته على أساس الحسابات الخاطئة وحزمة من الأكاذيب والحرب الإعلامية المضللة ،
باتت تدرك إن الاستقرار في هذا البلد بات بعيد المنال والديمقراطية عملة غير مقبولة بل مثيرة للسخرية في أوساط العراقيين وباتت تبحث حالياً عن خروج مشرف ولكنها لن تجده وستواجه المصير الذي واجهته إدارة نيكسون في فيتنام ، والحكومة البريطانية قبلها في عدن .
الجرح العراقي غائر وكبير ، ولا شفاء منه ، وسيظل ينزف حتى بعد الانسحاب الأمريكي الإيراني الكامل من هذا البلد ، ويطارد المتسببين فيه ربما لعقود قادمة ، فكل ما يمكن انجازه حاليا هو تقليص الخسائر، وفي أسرع وقت ممكن .
ويدرك الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الابن وحليفه رئيس بريطانيا الأسبق الأوثق توني بلير إن سفينتهما غرقت في مستنقع العراق وسقطت إلى القاع بسرعة رهيبة ، وباتا يبحثان عن عجلة إنقاذ ، ولكنهما يكابران في الوقت نفسه ويرفضان التسليم بالهزيمة ، والاعتذار لشعبيهما ، وللشعب العراقي الذي يدفع ثمن حماقتهما دماً وخراباً .
الرئيس بوش الابن قال بعد انسحاب جزء من قواته المنكسرة في العراق العام الفائت يكرر بأنه ما زال واثقاً من انه القوات العراقية تسيطر على امن العراق الجديد وقادرة على القيام بهذه المهمة بكفاءة عالية ، وبما سهل عملية الانسحاب البريطاني والأمريكي . والأخطر من ذلك إن السيد نوري باشا المالكي رئيس وزراء العراق يؤكد انه بحاجة إلى عشرة سنوات أخرى فقط لتحقيق الأمن والاستقرار وحل الميليشيات .
تسعة سنوات ونصف سنة ذهبت على احتلال العراق والقوات الأمريكية والإيرانية البالغ تعدادها الآلاف القوات المتعددة الجنسية ومئات الآلاف من قوات الأمن العراقية تعجز بشكل مخجل عن تحقيق هذا الهدف فكيف سينجح السيد نوري باشا المالكي في بسط الأمن خلال السنوات المقبلة .
التقارير الأخيرة تؤكد إن ولاء معظم قوات الحرس الوطني والشرطة للأحزاب الطائفية ، وليس للدولة ، وينعدم عندها مفهوم المواطنة ، فكيف يمكن أن تحقق الأمن والاستقرار وتنفذ أوامر السيد المالكي بحل الميليشيات الطائفية أيضا التي تلتقي معها على قاعدة الولاء نفسها وهذا ما حدث قبل أيام عندما أرسل الباشا المالكي رهطه الكبير لاعتقال حماية وزير المالية وحدث الذي حدث وحدثت الجريمة النكراء وتسبب في احدث فتنة كبيرة لم تحل لحد كتابة هذه السطور ..؟
الغريب في الأمر إن السيد نوري باشا المالكي غضب غضبا شديدا عندما وضعت له الحكومة الأمريكية جدولا زمنيا لتحقيق الأمن كان بمثابة التهديد له ولحكومته بعد معركة إعلامية مفبركة مع رهطه الأكراد ، وقال في انتفاضة كرامة انه يرأس حكومة منتخبة ذات سيادة ولا يتلقي أوامر من احد . حكومة منتخبة نعم ، ولكن ذات سيادة فهذا أمر مشكوك فيه ، فكيف تكون حكومة ذات سيادة وهي تعتمد في بقائها على القوات الأمريكية أولا ومن ثم الإيرانية ثانيا وعجزت كليا عن حماية نفسها وتمترست في المنطقة الخضراء الوحيدة شبه الآمنة ، ومن غير المعتقد انها يمكن إن تستمر يوما واحدا في السلطة في حال انسحاب القوات الأمريكية والإيرانية بشكل كامل من ارض العز ارض الرافدين .
العراقيون يهربون من العراق الجديد بالآلاف يوميا باتجاه تركيا وسورية والأردن بحثا عن السلامة ، وأكثر من مليون منهم غادروا مقار إقامتهم إلى أماكن أخرى هربا من التطهير الطائفي والعرقي الذي تمارسه الميليشيات ، وأصبح العراقي ، في الزمن الجديد يحتاج الى تأشيرة دخول ، وتصريح إقامة في منطقة كردستان العراق وربما قريبا في البصرة .
ومن المفارقة أن الأربعة ملايين عراقي الذين فروا من حكم الدكتاتورية مثلما كانوا يكررون على إسماعنا في الفضائيات والصحف لم يعودوا إلى عراق الحرية والديمقراطية والتحرير ، وفضلوا البقاء في المنافي الآمنة التي طالما اشتكوا منها ومن برودتها وتحرقوا شوقاً لمغادرتها إلى الوطن الأم .
نحن نعيش هذه الأيام حلول الذكرى الخمسين لحرب السويس ، وهي الحرب التي خاضتها بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ضد مصر الناصرية . الدول الثلاث انتصرت في الحرب في البداية ، فقد احتلت إسرائيل سيناء ، والقوات البريطانية والفرنسية قناة السويس ، ولكن هذا النصر انقلب إلى هزيمة ، وأجبرت هذه القوات على انسحاب كان بداية النهاية للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية، وبداية صعود الأمريكية، وانتهي انطوني إيدن رئيس وزراء بريطانيا ، ومهندس هذه الحرب ، إلى الاستقالة وبقية القصة معروفة .
التاريخ يعيد نفسه ، ومصير بوش وبلير ربما يكون أسوأ من مصير إيدن ، لان المحاكمة كمجرمي حرب ستكون في انتظارهما ، فدماء الملايين من العراقيين استشهدوا بسبب حربهم غير الأخلاقية هذه لن تذهب هباء ، كما أن دولتيهما ستظلان مطالبتين بدفع تعويضات للشعب العراقي لعقود قادمة ، إما مصير الذين تعاونوا مع قوات الغزو والاحتلال ، ومشروعها السياسي ، وقدموا تغطية شرعية لمقتل مئات الآلاف من أشقائهم ، فعليهم أن يحضروا جوازات سفرهم الأجنبية ، والاستعداد لركوب أول طائرة عمودية تقلع من المنطقة الخضراء عندما يحين موعد الهروب الكبير، وننصحهم إن يتعلموا من تجربة زملائهم في سايغون الفيتنامية ، إي أن لا تفوتهم آخر طائرة عمودية مغادرة وأخيرا نحن معشر الصحفيين نذكر ولا نقدم النصيحة للعملاء . .