كان أمس الأول يوما مميزا من أيامك يابغداد.. فقد أزيحت عن سماء ليلك غيمة حظر التجوال السوداء التي أطبقت عليها طيلة اثنتي عشرة سنة، فأسفر ليلك يابغداد عن زهوه ورونقه المعهود فيك منذ قرون، يوم قال عنك الغادي والرائح من السائحين والزائرين، ما لم يقله أحد في بلدة غيرك ومدينة سواك، فبجمالك يابغداد أبهرت القدماء والمحدثين، ففتحت قريحتهم في الشعر والنثر والرواية والأحاديث والحكايات، فكانت ألف ليلة وليلة، بشهرزادها وشهريارها يتحدثون عنك للتاريخ، وكذلك السندباد الذي حط رحاله حيث أرضك الطيبة، بعد أن جاب فيافي الأرض فلم ترق له مثلما رقتِ له ولغيره من الرحالة والمستكشفين على مر العصور.
لقد أتعبوك يابغداد وأقضوا ليل مضجعك، بعد أن خلنا أنك ستتنفسين الصعداء بزوال شبح الطاغية الذي جثم على صدرك ثلاثة عقود. كم كان ليلك جميلا يابغداد قبلها، كنت يقظة حتى الصباح.. وكنا ننعم بالأمان والاطمئنان تحت أفياء نهارك وجنح ليلك، كان الهدوء يرافق نسمات ليلك من دون حرس ولا عسس، كانت صافرة الـ “چرخچي” وحدها كفيلة بحراستك وحمايتك من أيدي الظلمة والـ (حرامية)، على العكس من سراق اليوم، فهم دولة لوحدهم.. وكيان قائم بذاته.. ومؤسسة فيها من يحميها ويسندها ويشرع سرقاتها آناء الليل وأطراف النهار.
ذكرياتنا معك ياليل بغداد جميلة وطويلة، كنت منيرا رغم الظلام.. ومشرقا رغم العتمة.. يومها لم يكن للإرهاب قدم تطأ شوارع بغداد، لكن..! كان هناك أمر يدبر بليل.. فقد كانوا يحوكون نسيجا يغطون به بهجة الناس وفرحتهم وأمنهم، فقد ساءهم أنك دار للسلام يادار السلام.
لطالما كنت يابغداد ملهمة الـ (قصخون) في قصصه، ولطالما قالوا وزادوا في القول عنك كثيرا، وغيض من فيض ماذكرته بطون الكتب؛
قال محمد ابن ادريس ليونس بن عبد الأعلى:
يايونس أدخلت بغداد؟
قال: لا.
قال: يايونس مارأيتَ الدنيا، ولارأيتَ الناس.
وقيل لرجل رحالة جاب البلدان والدول:
كيف رأيت بغداد؟
قال: الأرض كلها بادية.. وبغداد حاضرتها.
وسُمع الشافعي يقول: مادخلت بلدا قط إلا عددته سفرا، إلا بغداد فإني حين دخلتها عددتها وطنا.
وذكر أبو عثمان الجاحظ في آخر عمره بغداد في كثير من أقواله منها قوله: الأمصار عشرة: فالصناعة بالبصرة والفصاحة بالكوفة والغدر بالري والحسد بهراة والجفاء بنيسابور والبخل بمرو والطرمذة بسمرقند والمروءة ببلخ والتجارة بمصر والخير كل الخير… ببغداد.
وقال أبو القاسم بن الحسن الديلمي، وهو شيخ في بغداد تعلق بعلوم فصيح العربية:
سافرت الآفاق، ودخلت البلدان من حد سمرقند الى القيروان، ومن سرنديب الى بلد الروم، فما وجدت بلدا أفضل ولاأطيب من بغداد.
هنيئا لك بغداد فكاك حزن الحظر في ليلك.. وهنيئا لنا عودة حريتنا في التنقل بين شوارعك.. وكما نقول: (يوم التمام ان شاء الله).. فأمنية كل العراقيين عودة مدن العراق جميعها الى سابق عهدها في الأمن والأمان، وانقشاع الأشباح من أجواء ليلها ونهارها، وكل ليل ونهار وشوارعنا بلا حظر ولا حصار.