تعرف العلاقات الأمريكية_الفرنسية هذه الأيام انتكاسة تاريخية على المستوى السياسي ،وحتى الإقتصادي.وذلك راجع الى أزمة شراء الغواصات الأسترالية، التي سحبت صفقتها من العاصمة الفرنسية واتجهت إلى الولايات المتحدة الأمريكية. هذا السيناريو المفاجئ جعل العلاقات الفرنسية الأمريكية في أزمة مفتوحة، وقد اعتبرتها فرنسا “طعنة في الظهر ” من قبل البيت الأبيض.
ليطرح السؤال: ماذا ستفعل فرنسا مع هذا المعطى وكيف هو الرد على البيت الأبيض؟ وهل فعلا تستطيع الرد من خلال إنشاء حلف عسكري أوروبي ينافس الترسانة العسكرية الأمريكية أم أن الواقع الأوربي لا يمكنه الإستغناء عن الحليف الأمريكي وبالتالي فرنسا
ستخدع للقوة الأمريكية؟
١_ فرنسا وطعنة الظهر..
بدون شك إن ما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية للحليف الأوربي “فرنسا “،لايعتبر في العلاقات الدولية أزمة سياسية فقط،بل يدخل في ابجديات الحياة الدولية بالقدرة على النفوذ، والتحكم في مسار الصفات و الإستثمارات الدولية.
لايسما،وإن الإقتصاد هو المحرك الأساسي للسياسة ،وهنا يمكن القول إن فرنسا قد سقيت بالماء الذي كانت تسقيه للدول الإفريقية والعربية ،عندما تفرض عليها صفقات واستثمارات وفي شتى المجالات ،لتكسب من ورائها شركاتها الكبرى الملايير الدولارات، وتبقى تلك الدول تحت ضغوط هذه الشركات سياسيا واقتصاديا.
إذن،الولايات المتحدة الأمريكية أعطت درسا في هذا المنوال لفرنسا،وهي تسحب البساط من تحتها من خلال صفقة الغواصات التي كانت أبرمتها مع استراليا.
هذا العمل وصفته فرنسا ب”طعنة في الظهر “،هي إذن المصالح الإقتصادية فوق كل اعتبار ،وهنا يمكن القول إن أمريكا قد غامرت بعلاقاتها الاستراتيجية والتاريخية مع فرنسا من أجل كسب ثمار الصفقة الأسترالية الضخمة ،وكون ثمارها الاقتصادية تحتاجها الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الظرفية،والتي يعرف اقتصادها تضخم ونسبة الديوان وصلت إلى أرقام قياسية إضافة إلى تداعيات كوفيد_١٩ ومنافسة الصين عالميا.
٢_بايدن وارجاع النفوذ على حساب الحلفاء..
يدون إن التطورات المتسارعة التي عرفتها السياسة الخارجية الأمريكية، إتجاه محيطها العالمي، كانت مترابطة في ما بينها ،وتتجه إلى تقوية الداخل على حساب العلاقات مع الحلفاء التقليديين. وهذا ما وقع عندما سحبت الولايات المتحدة الأمريكية جنودها من أفغانستان،و بدون تنسق أو طرح الفكرة على حلفائها من الأوروبيين، والذين كانوا معاها في الميدان.
هندس هذا التوجه هو الرئيس”بايدن”،الذي أعطى الأولوية للاقتصاد الأمريكي،و ارجاع هيبة الولايات المتحدة عالميا وبدون خسائر. ويستشف من هذا المنحى إن الرئيس الحالي” جون بايدن” يريد إرجاع الولايات المتحدة الأمريكية إلى محيطها العالمي والسيطرة عليه من باب الاقتصاد. وذلك، من أجل منافسة العدو المتصاعد الصين.
فالإدارة الأمريكية الحالية، تريد في هذه الظرفية إن تتخلى عن حلفائها من أجل بناء اقتصادها والسيطرة على النفوذ خاصة في المحيط الهادئ والبحر المتوسط وهما منفذ الإقتصاد العالمي
٣-السيناريوهات الفرنسية المحتملة..
بعد واقعة “الطعنة في الظهر” هناك من يرى إن فرنسا ستتجه إلى سيناريوهات عدة لمواجهة واقعة “الغواصات مع الولايات المتحدة الأمريكية ،وهناك سيناريو مطروح هو توجه باريس الى تفعيل خطة إنشاء “حلف أوربي” خارج المدار الأمريكي بل ينافس ،وهذا التوجه تدعمه إلى حد كبير بعد الدول الأوربية ومن أهمها المانيا،لكن هل هو مناسب في هذه الظرفية؟ وهل يمكن إن تتحمل جل الدول الأوروبية نتائج هذا الانعزال الإقليمي عن الولايات الأمريكي وخاصة في مواجهة روسيا؟
لذلك،من المستبعد إن يكون هناك توافق من غالبية الدول العربية أو البرلمان الأوروبي،لإنشاء هكذا حلف، والابتعاد عن الحلف التقليدي “الناتو” وعن التوجه الأمريكي ،لأن التكليف الاقتصادية والعسكرية لا تسمح بذلك وخاصة في هذه الظرفية التي تعيش أوروبا.
أما السيناريو الثاني هو إن تتجه فرنسا إلى الشرق “التنين الصيني” لضغط على الولايات المتحدة الأمريكية ،لاسيما وان الصين تعتبر في هذه الحقبة هي المنافس الاقتصادي والعسكري، الذي يمكن إن يصمد أمام البيت الأبيض،لكن في نفس الوقت هل تقبل الصين بهكذا تقابل؟ وهي تعرف إن فرنسا تبقى الشريك الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية داخل أوروبا رغم كل التوترات.
في الختام،يمكن القول إن الولايات المتحدة الأمريكية،قد استخدمت مع حليفتها (فرنسا) طرح ميكيا فيلي “الغاية تبرر الوسيلة”. وذلك،من أجل سد الفجوة الاقتصادية ومحاولة مواجهة تداعيات الأزمة الاقتصادية،التي خلفتها جائحة كوفيد_١٩، وفي نفس الوقت تكريس نفوذ العم سام داخل المحيط الهادئ وإبعاد من يرد اللعب داخل محيطها الاستراتيجي وخاصة الصين.
في آخر المطاف، فرنسا ستقبل بالأمر الواقع وتحاول إرجاع العلاقات الأمريكية _الفرنسية إلى المربع الأول. لأن، ببساطة الولايات المتحدة الأمريكية، ليست هي دول إفريقيا أو الدول العربية، التي كانت ولاتزال فرنسا تأخذ منها الإستثمارات، وتبيع لها الصفقات، بالضغط والترهيب والمساومة…!
فهل تتأدب فرنسا سياسياً واقتصادياً.. بعد هذه “الطعنة” في التعامل مع الدول الصغرى؟