أيام قليلة تفصلنا عن بداية العام الجديد، لنودع عاماصعبا قاسيا على البشرية بأسرها؛وبائيا وسياسياواجتماعيا واقتصاديا.
جرثومة خبيثة تمكنت من الفتك بنا جميعا، ووضعتنا أمامأسئلة صعبة ومصيرية، أتمنى أن نتمكن في العام أوالأعوام المقبلة الإجابة عليها لصالح أمان واستقرارالبشرية، وصحة وكرامة وحرية الإنسان في كل مكان حولالعالم، وخاصة في منطقتنا الهشة، التي فاقمت الكارثةالوبائية من معاناتها ومأساة شعوبها، فلم أجد توصيفا لهاأدق من قصيدة الشاعر والدبلوماسي السوري، نزار قباني(1923-1998) “المهرولون“، والتي نظمها إثر توقيعاتفاقية أوسلو عام 1993:
سقطت آخر جدران الحياء.
وفرحنا.. ورقصنا..
وتباركنا بتوقيع سلام الجبناء..
لم يعد يرعبنا شيء
ولا يخجلنا شيء
فقد يبست فينا عروق الكبرياء..
سقطت..
للمرة الخمسين عذريتنا..
دون أن نهتز.. أو نصرخ..
أو يرعبنا مرأى الدماء..
ودخلنا في زمان الهرولة..
ووقفنا بالطوابير، كأغنام أمام المقصلة..
وركضنا.. ولهثنا..
وتسابقنا لتقبيل حذاء القتلة..
..
نعم. هي الحقيقة التي نراها اليوم ماثلة أمام أعيننا، فلميعد لدينا ذرة حياء، بينما يمر العام تلو العام، دون إحرازأي تقدم في معالجة أي من الملفات السورية والليبيةواليمنية والفلسطينية واللبنانية، ملفات تخص ملايينالبشر، من شعوبنا التي تعيش في أسوأ الظروفاللاإنسانية، والتي يصنف بعضها بأكبر كارثة في العالم.
عام كامل يمضي، دون أن يتمكن الحكام العرب من تجاوزخلافاتهم لإعطاء بريق أمل لهذه الملايين بمستقبلأفضل.
حديثنا يخص الزعماء العرب، ونحملهم المسؤولية لأنمفاتيح إنقاذ الشعوب العربية من هذه المعاناة موجودةومحددة بقرارات مجلس الأمن الدولي، لكنه منالمستحيل أن تتمكن هيئة الأمم المتحدة والمجتمعالدولي من مساعدة دول، عاجزة حتى عن مساعدة نفسهافي الخروج من الأزمة، في ظل غياب كامل للإرادة العربية،وعلى الرغم من توفر جميع الإمكانيات المادية. فهل هناكما هو أمر من ذلك الوضع المزري الذي تعاني منه الأمةالعربية، التي لا زالت مع ذلك تفتخر بكبريائها وعزتهاوكرامتها و“عروبتها“؟
بنهاية هذا العام تنتهي فترة رئاسة الرئيس الحاليللولايات المتحدة الأمريكية، دونالد ترامب، والتي توصفبأنها إحدى أسوأ الإدارات التي مرت على البيت الأبيض. بلتبدو هذه الإدارة وكأنها من بين فصول رواية “العراب“لماريو بوزو، أكثر من كونها إدارة دولة بحجم الولاياتالمتحدة. فهي إدارة تضرب بعرض الحائط كافة القوانينوالمفاهيم الدولية وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها،وقرارات مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، بينما يتركزاهتمامها على خلق الاضطرابات والمشكلات الدوليةوتأجيج الصراعات الإقليمية عملا بسياسة “فرق تسد“،بغرض فرض شروط تخدم مصالحها الشخصية وصفقاتهاالتي أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر صفقات أسلحةأمريكية مع دول الخليج، فرضت على هذه الدول خلالالسنوات الأربع الأخيرة تقدر بـ 850 مليار دولار أمريكي، لاتهدف لرفع القدرات القتالية والدفاعية لهذه الدول، بقدرما تهدف لزيادة سيطرة وتحكم واشنطن في سياسات هذهالدول، وتوسيع نطاق سيطرة الناتو في منطقة الشرقالأوسط على حساب ثرواتها، وهو التوسع الذي يهدفاستراتيجيا إلى عرقلة الجهود الروسية لحل الأزمة النوويةالإيرانية والتوصل إلى الأمن والاستقرار الدوليين من خلالحل كل الأزمات في الشرق الأوسط استنادا إلى الأسسوقرارات الشرعية الدولية الصادرة عن مجلس الأمن وهيئةالأمم المتحدة، وبناء علاقات تعاون وحسن جوار بين دولهذه المنطقة وهو ما يخدم على التوازي المصالح القوميةوالأمنية العليا لروسيا على المستويين المحلي والإقليمي.
فهل يحتاج أمن واستقرار منطقة الخليج إلى 850 ملياردولار؟
وألا تكفي هذه المليارات لإنهاء الأوضاع الكارثية التييعاني منها ملايين السوريين واليمنيين واللبنانيينوالفلسطينيين وإعادة الإعمار وإنشاء البنى التحتية؟
نذكر بهذا الصدد مشروع مارشال لإعمار أوروبا (1947)،الذي تبرعت بموجبه الولايات المتحدة الأمريكية، عقبانتهاء الحرب العالمية الثانية، بمبلغ 17 مليار دولار، وهوما يعادل وفقا للتقديرات 202 مليار دولار في عام 2019.
ما يثير القلق بهذا الشأن هو أن هذه الصفقات سوفتحول، بكل تأكيد، دون التوصل لأي اتفاق سلام عربيإيراني على المدى المنظور.
كذلك كان من بين ما أبرمته “إدارة المافيا” في واشنطنمن صفقات: الاعتراف بالجولان، وقبلها القدس، وضمأراض أخرى من الضفة الغربية لإسرائيل، مقابل التأييدالكامل للوبي اليهودي الأمريكي لترامب وإدارته وضمانانتخابه لفترة رئاسية ثانية، وهو ما فشل اللوبي فيتحقيقه. كذلك مؤخرا صفقة الاعتراف بالسيادة المغربيةعلى الصحراء الغربية مقابل التطبيع مع إسرائيل،ومليارات الدولارات من الأسلحة، وهو ما يخالف قراراتهيئة الأمم المتحدة، وجهودها في حل أزمة الصحراءالغربية، ويدخل المغرب في أتون صراع وحروب جديدةمع جبهة البوليساريو، بالإضافة إلى خلاف مع الجمهوريةالجزائرية، وهو ما يضاف إلى قائمة الخلافات بين الدولالعربية، على غرار الأزمة الخليجية.
كل هذا يدفع حتما إلى مزيد من تأجيج الصراعاتوالخلافات وتفاقم الأوضاع بين الدول العربية، وهو ماسينعكس على جميع الملفات في المنطقة بما في ذلكالملفات السورية والليبية واليمنية واللبنانيةوالفلسطينية. علينا بهذا الصدد أن نعي حقيقة أن الأمةالعربية هي جسد واحد، شئنا أم أبينا الاعتراف بهذهالحقيقة، لكنها واقع لابد أن ينضج الجميع بما فيه الكفايةللتعامل معه.
كذلك نأمل أن يتفهم الجميع أنه في العام المقبل، ومعدخول الولايات المتحدة الأمريكية عهدا جديدا، فلن يكونمن الممكن حل القضايا الدولية وتحديدا القضاياالإقليمية الخاصة بمنطقتنا دون الاعتماد على الجهودالدولية المشتركة، وبرعاية هيئة الأمم المتحدة، وباحترامكافة القرارات الصادرة عنها. وكما قال وزير الخارجيةالروسي، سيرغي لافروف، خلال مقابلته الصحفية بمناسبةمرور 15 عاما على بدأ البث لقناة “روسيا اليوم” RT: “يجب التعاون بصدق وإنصاف مع المصالح الوطنية لأيدولة على أساس القانون الدولي“.
نتمنى أن تنتهي الإدارة الأمريكية من فصل “إدارة المافيا” برحيل الإدارة الحالية عن البيت الأبيض، والتي كانت تضعفي صلب أهدافها السيطرة والتحكم بالثروات العربيةوتمويل القواعد العسكرية الأمريكية وتوسعها في الخليج،وهو ما يحمل أبعادا استراتيجية أبعد بكثير من منطقةالشرق الأوسط، تستهدف بالأساس إضعاف روسيا كقوةمستقلة، والنيل من مصالحها الوطنية، في إطار سعيأمريكي غربي لإعاقة روسيا في حق تقرير مصيرهاوازدهارها من خلال محاولات التدخل في شؤونهاالداخلية، وضعضعة جبهتها الداخلية بخلخلة المجتمعالروسي من الداخل (باستخدام سلاح الثورات الملونة،والحرب الهجينة، وفرض الحصار والعقوبات الاقتصادية)،إضافة إلى المناورات العسكرية للناتو بالقرب من الحدودالروسية.
حينما نظم نزار قباني قصيدته “المهرولون“، كانت تحزنه“الهرولة العربية” التي بدأت بـ “كامب ديفيد” (1978) وانتهت بـ “أوسلو” (1993)، فيما ظنه الشاعر عارا لايمحى. لكن حتى هذه الاتفاقيات، كانت تضع نصب أعينهامعادلة “الأرض مقابل السلام“، على رفضنا لها، إلا أن مانراه اليوم من “هرولة عربية” نحو التطبيع، ليست سوىتجسيدا لمعادلة أخرى عنوانها “الأوهام مقابل السلام“،فكفى هرولة بالتطبيع والانحدار وعدم التمييز بينالأصدقاء والأعداء، والعبث بمصير الملايين من أبناءشعوبنا العربية بالابتعاد عن وعدم الالتزام بقرارات هيئةالأمم المتحدة التي تؤكد على الحقوق الوطنية للجميع،وتضمن السيادة والأمن والاستقرار والسلم. فهل تبقىلدينا بعض من حمرة الخجل؟