من سوء حظ العراقيين أن التغيررات الجذرية التي شهدوها عام 2003 كانت تتجه نحو هاوية سحيقة، فيما كان المؤمل أن تتجه بوصلة الأحداث الى حيث الأمن والاستقرار ودعة العيش والرفاهية، بعد القلق والقمع والكبت والحرمان التي كانت مجتمعة نصيب العراقيين من حكومة البعث الدموي، وسلطته الدكتاتورية. إذ سار البلد متعثرا في درب أقل مايقال عنه أنه “درب الصد مارد”..! حيث انقضّ على حكمه طيلة الربع الأخير من القرن الماضي نظام البعث الدموي، وذكره وأفعاله غنية عن الشرح والتبيان، فضلا عن آثاره التي مازالت تخيم على سمائنا شئنا أم أبينا! يومها كان العراقيون لايفقهون في الأمور السياسية إلا ماتمليه عليهم الاجهزة الاعلامية المسيَّسة، من خلال قنوات محلية لايتجاوز عددها أصابع الكف الواحدة. فلم يكن كثيرون يفكرون في يومهم إلا بلقمة العيش، والسياسة كانت خطا أحمر أو قد لا أبالغ ان شبهتها بحقل الغام، والإقتراب منها يعني الهلاك لامحالة. واستمر الامر على هذا المنوال، والناس بين خائف صبور ومتمرد معدوم او مسجون، او فارٍ من العراق الى حيث يدري ولايدري. الى ان جاء الفرج وانزاحت (الغمّه من هالأمّه). انه يوم 9/4/2003 حيث الديمقراطية والحريات بأنواعها، تلقاها العراقي بتعطش يعود لعقود خلت. اهمها التكلم والبحث بالسياسة ونقد السياسيين وقراراتهم، والتظاهر اذا كان ثمة قرار لايصب في مصلحته. فسالت دماء منه في الدفاع عن حقوقه، حتى بدأ يشعر انه قادر على إجبار المسؤول على العمل لمصلحة البلد، وأن بإمكان الشعب أن يكون السلطة الحاكمة، وأرادته فوق إرادة السلطات كما سمع هذا الموال في أكثر من مقام، وكان له ذلك، ولكن في النزر اليسير من حقوقه، فالبحر الذي خاض غماره عميق جدا، وفيه من الحيتان ما لم يكن بحسبانه، ومن الأمواج ما لايقدر على الصمود امامها، وجابه سفانين يجيدون فن مجابهة الرياح العاتية. و(لات حين مناص) فصار حاله اليوم كحال اولئك الذين قال لهم طارق بن زياد: اين المفر؟ العدو من امامكم والبحر من ورائكم. وكما يصور بيت الشعر:
ليل وزوبعة وبحر هائج لا أرى إلا السفينة تغرق
وهكذا انزلق العراق والعراقيون من جراء سياسات قادته المتعاقبين شر منزلق، وبات خروجه من مطب يعني ولوجه في مطبات أشد قسوة وأكثر ضيقا. ولكن فات السفانين ان عراقي اليوم غير عراقي السبعينيات. فقد وعى وبات يميز اي السفانين يسير بالإتجاه الصحيح، وأيهم يسير وراء غايات بعيدة عن المرسى الآمن للبلاد، ولم تعد تنطلي عليه ألاعيب المغرضين، وعرف الشخوص التي تمسك بخيوط الدمى الخليعة التي تتصيد بالمياه الآسنة، وتعكر صفو الماء الزلال. والسياسة التي كانت (بعبع) أصبحت اليوم حديثا شيقا تعرف دهاليزه شرائح الشعب جميعها. وقبل نشرة الأخبار نجد رواد المقاهي على بساطتهم يحللون الاحداث، ويعرفون ماغاية (زيد أوعبيد) من مقاله او تصريحه. نعم..! فالعراقي لم يعد فكره سطحيا عن السياسة وألاعيب الساسة، كما أنه بات على دراية تامة بما يدور حوله من أفانين وخزعبلات يسمونها سياسة. وما يدور اليوم في أروقة الحكومة لم يعد (طلسم) بعين المواطن، وعلى سبيل المثال الحراك الدؤوب الذي يقوم به رئيس الوزراء العبادي، أرى أن العراقيين باتوا يقيمونه بمنظارين، والاثنان لهما من الصواب الكثير من النصيب، أولهما أن الرجل جاد فيما هو يسعى اليه، إلا أن المعية والحاشية والـ (حبربشية) يعرقلون خطواته ويثبطون معنوياته لغايات هي الأخرى لاتخفى على المواطن. وأما المنظار الثاني، فهو أن العبادي نفسه شط عن النية الصادقة التي اعتلى بها منصبه، وانحاز قليلا -وبالأصح كثيرا جدا- عن طريق الإصلاح الذي رسمه، وعزم على الإقدام فيه. وفي الحالين والمنظارين لن يكون المآل حميدا على المواطن، ولا على قبطان مركبنا العبادي، وسيغرق ويغرقنا معه في لج بحر لن تقوم لنا قائمة بعد ذلك.
[email protected]