23 ديسمبر، 2024 6:53 ص

بعد أجتياز المتظاهرين سور الخضراء … العبرة والحكمة في الدروس الماضية

بعد أجتياز المتظاهرين سور الخضراء … العبرة والحكمة في الدروس الماضية

كان تاريخاً فاصلا دخول الجماهير الغاضبة مبنى البرلمان ، بعد مطالبات واحتجاجات دامت أكثر من سنتين ، توخت فيهما أصلاح الاوضاع المتفاقمة سوءا وفساداً ، وإنتشال البلاد من أخطار حقيقية تحدق بها .
والحقيقة إن الانتباه الى حقائق الأمور ومنزلقاتها أمور يجب على السلطات ، خاصة البرلمان متابعتها والتصدي لها ، وعندما تكون السلطات أساس المشكلة ، فأين نجد الحلول؟! .
الجماهير ترى في الوعود المتكررة والإجراءات المتخذة ، سبيلا لايرقى الى مستوى الهموم والالام والمعاناة التي تحملتها ، وتلك أمور تزيد من طاقة غليان الشارع ، وتدفع مديات التحمل والصبر الى نهايات مخيفة ، بوجود معادلات أضطراد نمو الفساد وتفاقم معاناة الناس من كل شكل ولون .
صوت الإصلاحات المتعالي ، ليس امامه من مجيب ، سوى إجراءات كسيحة من جانب السلطات ، التي تحاول ترقيع الحلول بأكثر مما تتحمله طبيعة الأزمة وحالة الواقع ، فمطالب ترشيق هيكلية الدولة ، وكشف المفسدين وأعادة الاموال المهربة ، فضلا عن امور وقضايا جوهرية اخرى ، هي تناقضات خطرة تتعلق بمستقبل البلاد وتنميته ، وتحتاج جهوداً مكثفة لمعالجتها ، ومن حق الرأي العام الوطني إستخدام ثقله للضغط على الجميع ، لتحقيق مطالبه لأن غياب صوت المجتمع نقيصة خطيرة في راهن بلادنا .
ومن المؤسف ، أن لا تجد هذه الاحتجاجات آذاناً صاغية برغم استمرارها اكثر من عامين ، كان يمكن خلالها تحقيق الكثير من القضايا والمطالب ، خاصة إن
الاصطفافات الجماهيرية وصفوة المجتمع كانت على إستعداد للوقوف مع الحكومة في هذا المسار، ومن الآثار التي أشتدت بها الاوضاع سوءا ، الوعود الحكومية المتكررة من دون جدوى، والدوران في حلقة مفرغة من الوعود ، أبتدأت بالايحاء والتلميح ، بأن التغيير قادم بقوة جارفة، ليس لاحد أن يوقفها، وأنتهى المرتجى والمأمول الى المداخلات والتأجيلات من دون وعي بخطورتها وتداعياتها ، فمن أخطر المزالق السياسية ، إعتماد القادة المسؤولين نوعا من الأزدواجية التوفيقية المتعسفة ، بالتصرف بنحو بما تمليه عليهم الظروف او الاقوياء من جهة ، ومحاولة مهادنة الجماهير بما يوافق هواها لكسب الوقت من جهة أخرى ، وهي إستهانة بجماهير البلاد من دون الانتباه الى الفجوة والشرخ العميق الذي ينشئه تباين الفعل والقول ، وإختلاف المكتوم الباطن و الظاهر المعلن ، ووسط هذه المعادلة تضيع المصداقية والحد الأدنى من الاحترام لأي نظام.
توالي الفشل على مختلف صعد الدولة مع صعود وتائر الفساد ، وضعت البلاد على حافة فقر مدقع ، بلغت أرقاما فلكية لم تصلها البلاد سابقا في أيٍّ من مراحلها ، وتعدّها المنظمات الدولية مصدر خطرا على اي مجتمع ، وتدعو الدول المبتلية بها الى برامج حكومية جادة للحد منها وأعطائها الأولوية ، فمن الطبيعي والحال هذه ، أن يبدأ الغليان والنفور والتذمر بين الجماهير .
ولما كان سيف الوقت مسلطا على ما تبقى في يدها من عناصر الصبر والاحتمال ، فأن مجال الخيارات الصعبة والاقدام بدأ يتغلغل في النفوس بصورة تلقائية ، وهو ما يحدث عادة عندما تجد الشعوب نفسها في مواجهة مصائرها ، ويكون عليها في لحظة من اللحظات أن تقف وتثبت أستحقاقها للحياة ، أو تركع وتتخلى عن الحياة ذاتها .
من الغريب أن تصدر أصوات من هناك وهناك في داخل الحكومة والبرلمان ، بالتنديد بما جرى من دون وعي الحالة بحقائق الواقع ومسار تطوراته ، وعمق الازمة الناشبة جراء الاصرار ذات الوجوه السياسية القائمة بنهجها وخططها ، التي أفقرت البلاد وأجهزت على مقدراته المالية ، ووضعت الناس في مواجهة دائمة لأسباب الفقر وتداعياته من جهة ، وصراعات التناقضات التي يفرزها الواقع نتيجة غياب منهجية بناء الدولة والمجتمع معا، والخروج على الدستور من جهة اخرى.
إن الناس يرون بأم أعينهم نهب ثروات البلاد بطرق وألاعيب شتى ، فيما البلاد بحاجة الى أعادة بناء وتنمية ، وهذه تتطلب تكريس هذه الثروات المهدورة لنهج البناء ، وهي من العوامل الاساسية في تراكم الكامن في النفوس وتحملّها بآزاء تراكمات التذمر والسخط والإحتجاج الذي يتطور الى أشكال لاحقة أذا لم تجرِ معالجتها بتحقيق المطالب ، وآزاء ذلك كله لاتزال السلطات تحاول القفز على الواقع ، وهو ما يشكل عنصر أستفزاز ، طالما تمنح طاقة أضافية للرفض ورد الفعل والإندفاع باشكال يصعب السيطرة عليها من أي احد.
إن الاصرار مع ذات النهوج والسياسات ، ستجعل البلاد بمواجهة متغيرات حتمية تمليها طبيعة التناقضات ومسار الازمة ، التي لم تعد تقبل التأجيل والمهادنة ، وعدم تقدير الأمور بوعي وتحسب ، ستجر البلاد أكثر الى واحدة من أخطر أزماته في التاريخ الحديث. نحن أمام حالة تداعي نحتاج معها الحكمة والبصيرة في معالجتها بعيدا عن أساليب اللوم والدعوة الى معالجات غير منطقية ، سوى دخول البلاد في متاهة ، لأن مطالب الجماهير حقيقية وواقعية . أليست هذه المطالب ، ما تسببت في إدانة أنظمة وسقوطها ، فلماذا التغافل عنها ؟! .
أن أية مقاومة شعبية للفساد وسوء الحال هي شرعية بأمتياز . سئل الزعيم الفرنسي الجنرال ديغول عن أسباب سقوط فرنسا بسرعة مفاجئة ، وتقديم الجنرال (بيتان)
فرنسا للنازية على طبق من ذهب ، أختصر الرجل الجواب بكلمتين قال فيها : (أن (بيتان) لم يقرأ تاريخ فرنسا بوعي ) ، وفي هذه الاجواء الملبدة البالغة الدقة والحساسية والحافلة بالخطر، علينا إستذكار الوعي بالبلاد وتاريخها ، لنختار لها طريقا يخرجها من نفقها المظلم ، بعيدا عن المنتفعين والمفسدين الذين هم أسباب اليأس والبلوى . قدم العراقيون بمختلف قومياتهم وطوائفهم ، تضحيات جسيمة في مجرى الكفاح والنضال للتخلص من الانظمة الاستبدادية والدكتاتورية ، والحلم بوطن خال من الجوع ويفيض بالحرية ، التي أفتقدوها لأزمان طويلة في محنة تاريخية مستدامة ، كان نصيب الكورد من التشرد والتهجير والتغيير الديمغرافي في مناطقهم ، وصلت حدا وصفت فية منظمة دولية زارت العراق عام 1986 ماقامت به الحكومة العراقية بحق المدن الكوردية ، خاصة كركوك هي ممارسات جيش محتل ، فضلا عن الابادة الجماعية بأسلحة الدمار الشامل وغيرها . ومحاولات طمس التراث الثقافي والفكري للكورد وكل هذه العوامل هي من عوامل ترقين الوجود القومي بلا شك .
وكانت تلك التضحيات تصب في مجرى الحلم المشروع برؤية دولة ديمقراطية يسّورها العدل والتكافؤ ، وتشهد تنمية وتطوراً بعد خراب هائل في الطاقة البشرية والاقتصادية ، كانت رحلة المعاناة والآلام والدماء الغزيرة كبيرةَ ، ونصيب الكورد منها وافراً ، وبرغم ذلك أستطاع الكورد بما أمتلكوا من طاقة نضالية نابضة بالحياة ومتجددة ، أن يتغلبوا على المصائب والظروف المعقدة ، وقد تفاجأ العالم بنهضته وثوراته المتوثبة المتعددة التي حملت طابعاً مستوعباً للحركة التاريخية لأية حقبة مرّ أو يمرّ بها .
خلاصه العمل النضالي والكفاحي أنتجت ثمارها في أتاحة الاقليم الفدرالي الذي أضحى متنفساً ثورياً ليس للكورد وحدهم ، وأنما لكل القوى الوطنية المناهضة
للدكتاتورية ، وأضطلع الاقليم بدور وطني وتاريخي كبير ، أطر المرحلة بأسس وجوانب عمل وطنية تمخض عنها مؤتمر صلاح الدين ، الذي وحد النهوج تحت فلسفة العمل الجبهوي المشترك لبناء عراق جديد. ومع تلاحم الجهود الوطنية وأتجاهات المجتمع الدولي ، بضرورة تغيير النظام ، الذي أصبح عقبة أقليمية ودولية وبؤرة للصراعات والتوترات في المنطقة ، فضلا عن سجله المخزي في مجال حقوق الانسان ، وأرتكابه الفضاعات مع شعبه خاصة الكورد .
وتحركت الجهود الدولية لأزالة النظام من الخارطة السياسية للمنطقة ، وتحّمل الكورد مسؤولية تاريخية جديدة أتجاه تحقيق الحلم الموعود للعراقيين من خلال المشاركة الفعّالة في عملية التغيير عام 2003 ، حيث شاركت قوات البيشمركة بالعملية بعدّها القوة الوطنية العسكرية الوحيدة على الأرض حينها اذ أسهمت مع التحالف الدولي في تحقيق التغيير المنشود ، وقدمت دماء زكية وتضحيات كبيرة لخلاص البلاد من براثن الدكتاتورية.
فهل تحقق الحلم بعد مشوار التضحيات والدم وآلام وولادة سلطة التغيير الديمقراطي لمرحلة ما بعد الدكتاتورية عام 2003 ؟!. الغريب ، أن يتم تجاوز منحى التغيير العالمي الذي تغيرت على أولوياته نظم وتوجهات دولية ، فقد واجه المجتمع الدولي حقائق جديدة بعد انتهاء عصر الحرب الباردة ، فيما يتعلق بمجمل السياسات العالمية ودور مختلف الانظمة ، وكان من المسببات التاريخية أن تتباعد مصالح وسياسات أنظمة ومنها العراق عن التيار الاصلاحي العالمي ، فضلا عن نتائج الكفاح الوطني العراقي ، وتلاحم هذين الاتجاهين في مجرى واحد إحداث التغيير التاريخي المنشود في البلاد .
تغير المناخ العالمي لم يعد له حضور في ذاكرة التجربة الجديدة ،التي لم تقدم أي شيء سوى فشل يعترف به مسؤولون على مختلف المستويات ، من دون إستعداد
لمغادرة المواقع وأتاحة الفرصة للآخرين ، فضلا عن محاولات بناء تجربة رائدة تليق بتضحيات العراقيين وتعيد آمالهم بوطن سعيد .
إن أهم الاولويات المهمة المغيبة بعد المباشرة بالسلطة الوطنية الجديدة ، هي أشاعة مفاهيم التجربة الجديدة لترسيخ مسارها وتصحيح التصورات والافكار والنظرات السابقة .
فضلا عن تبيان أهمية الشراكة في ترصين البناء السياسي ، الذي أدى الخروج عليه الى تعاظم مشكلاتنا . فبالرجوع الى محاولات إحتكار السلطة وذهنيتها ، التي لاتصلح للبلاد لأنها نظرة ذات أتجاه واحد ، لا تلتقي مع طبيعة البلاد وتلاوينها ، وتاريخنا حافل بصراعاتها المؤثرة في أنهيار البلاد وتأخرها.
إن أخطر ما تواجهه البلاد عدم الالتزام والعمل ببنود دستورها، ومحاولة التفرد بالسلطة وتغييب الشراكة الحقيقية ، التي هي بطبيعة الحال أحدى الضمانات المهمة في عدم انزلاق البلاد نحو مجاهل الفساد ، وتعطيل دور الهيئات الرقابية ومهماتها ، التي سببت أختلالا بنيويا لقاعدة بناء السلطة الديمقراطية ، بخصوص مجرى المشروع السياسي الى سلطة فردية ، فالمشروع الديمقراطي يفضي الى المشاركة والتوافق والتفاهم ، فيما السلطة تحاول أحتكار كل شيء وتهميش الآخرين تمهيداً للهيمنة.
كان المشروع السلطوي أهم أسباب انهيار بناء الدولة والتنمية ، فمشروع السلطة أثبت فشله وعجزه في آن عن حلّ مشكلات البلاد على مختلف الصعد ، بل أن البلاد قبعت بفضلها في ذيل قائمة البلدان ، التي تعاني الفقر والحرمان والتخلف بصورة خارجة عن المألوف بحسب معطيات المنظمات الدولية والاممية. فضلا عن عدم خلق فرص التقارب مع المكونات الاساسية في البلاد طبقا لدستور البلاد .
فمما يؤسف له حقا إستمرار ذات النظرة السلبية السابقة للعهود المبادة ، إزاء القضية الكوردية لدى هذا الطرف أو ذاك ، في وقت لم يعد العصر يتسع لمثل تلك الافكار ، بشأن مصير شعب كوردستان وقضيته ، وأكثر من هذا إنكار حقوق البيشمركة بعد كل التضحيات التي قدموها في كل عهود السلطات المستبدة والدكتاتورية ، وحمايتهم لكل الاحرار والمناضلين من العراقيين جميعا وآخرها النظام البائد ، الذي أسهمت في أسقاطه قوات البيشمركة ، بوصفها القوة الوطنية الوحيدة الفاعلة على الارض وقدمت دماء عزيزة ، (واليوم تتصدى للارهاب الداعشي وتحطم اساطيره الهمجية وغدت قوة البيشمركة الابطال مثار افتخار العالم باسره الذي يعدّ الدفاع الشرس للبيشمركة دفاعاً عن الانسانية وقيمه النبيلة الحرة في وقت لم تبادر الحكومة الاتحادية بواجباتها المنوطة بها حقوقياً ودستورياً برغم ان اثار بطولاتها على اكثر من صعيد داخليا وخارجيا)، فضلا عن قطع حصة الاقليم من الموازنة العامة ، برغم وجود أتفاقيات مع الحكومة الاتحادية ، خاصة في المجال النفطي التي أكدت لجان الطاقة البرلمانية لأكثر من مرّة ، التزام اقليم كوردستان بالمعاهدة مفندّة بذلك الأدعاءات وكذلك قطع رواتب موظفي الاقليم. ولايزال الاقليم يؤوي أكثر من مليوني نازح ، برغم ظروفه المالية الصعبة وتهرب الحكومة الاتحادية من واجباتها إزاءهم .
وعودة على بدء ، ثمة قضية مهمة اخرى تطرح نفسها ، لماذا يخلو مشروعنا السياسي من قوى المعارضة . ولماذا هذا الاصرار على ان يسهم كل طرف بالسلطة ؟! ولماذا لا توجد في البرلمان معارضة برلمانية ؟!.
لتوفير مثل هذه المعارضة نحتاج الى مشتركات أساسية ، وأولويات بناء البلاد كي لاتخرج السكة عن أهدافها، ويحتاج البرلمان الاتحادي شأنه شأن الحكومة الى ترشيق في عدد أعضائه ، التي تتسب في الأختلاف بأكثر من التلاقي والألتقاء ، وفي ظل المسار السابق وتعقيداته ، لم يكن البرلمان موفقا في أدائه الرقابي ، وألا
فكيف تفاقم الفساد وتدنت أحوال البلاد في ظل وفرة مالية غير مسبوقة في تاريخ البلاد ، وعدم ضرورة تكرار النواب لأكثر من دورة واحدة ، ودعنا من حديث التمثيل الشعبي ، فكثير من النواب لم يحصل على خمسة آلاف صوت ، بل أن بعضهم بالكاد حصل على خمسمئة صوت أو تجاوز الألف بقليل ، وكان أن القائمة أدخلتهم بفضل ما حصلت عليه ، وهذا ما يجعل النائب ممثلا لقائمته في البرلمان ، ولما كان برنامج العمل البرلماني غير موحد في اولوياته ، فقد غدا المسرح البرلماني ساحة لصراع الإرادات ، وقد أنعكس ذلك على الكثير من جلساته ، لأنها تنطلق من مصلحة الكتلة السياسيه ومصالحها ، ، فضلا عن إن بقاء أي شخص في أي منصب وفي ظل ماتشهده البلاد من إنفلات رقابي وضعف الموسسات الرقابية لتسيسها المبكر ، فأنه ستنشأ له مصالح خاصة برهن المساومات ، وهي ماتعيق عملية أعادة البناء من خلال شل احدى مؤسسات القرار . كما تؤكد الحاجة ضرورة الأحتكام الى قانون جديد للإنتخابات.
إن السلطات الثلاث لم تعد تكفي اجتماعاتها المتكررة ، فلابد من خروج بما يلبي حاجات الجماهير ومطالبها ، ومعالجة الامور بموضوعية وحكمة وروّية ،وطرح كابينة وزارية تنال الرضا العام ، والاسراع بطرح برنامج وطني بالتزامن مع التعاهدات بملاحقة المفسدين وعرضهم للقضاء ، وإعادة الاموال المنهوبة في سقوف زمنية معلومة ، وإعادة العمل بالدستور وتجنب التعامل معه بانتقاء فقد أثبتت الاحداث الماضية والحاضرة ، أن هذا البلد لا يمكن ان يخطو نحو المستقبل بثقة ، ألا بتلاحم قواه الجمعية التي يشكل تضامنها مانعا وحصانة للمسار السليم ، بعيدا عن المفسدين والمتطفلين ، الذين أوقفوا البلاد على حافة الانهيار.
أن العبرة والحكمة في الدروس الماضية.