ينتمي الشاعر صباح خطّاب إلى جيل من الشعراء السبعينيين ممن شُرّدوا خارج وطنهم العراق في فترة عصيبة شهدتها الساحة العراقية السياسية في العام 1978 متمثلة بمجيء الحزب الواحد وصعود الرأي الواحد وإنتهاء بالرجل الواحد الذي قاد الأمة العراقية إلى دمارٍ شامل ٍما زال شاخصاً كالجرح الأبدي في وجدان الشخصية العراقية والذي سوف تحملهُ أثراً عميقاً في مخزون ذاكرتهِا ولأجيال قادمة, ولربما وجدت الكثير من شظايا هذا الدمار العظيم متجسداً في بعض قصائد هذه المجموعة الشعريّة التي آثر الشاعر ان يصدرها ألكترونياً وبعددٍ محدود , فالكتابة عندَ صباح خطّاب هي اللحظة الحيّة في جريان هذاالعالم والبصيص المتوقد تحت رماد الحرائق القادر على الحلم من جديد وهو لايختلف عن مجايلهِ من الشعراء من أمثال: آدم حاتم ,عبد الحسن الشذر ,رعد عبد القادر, شاكر لعيبي ,كزار حنتوش, حمد الأنباري, حيدر الكعبي, مخلص خليل , نوري أبو رغيف, زيارة مهدي, رياض إبراهيم , باسم حسن تقي , حاكم مردان , حيدر صالح ,
عدنان محسن ,عدنان العيسى ,عقيل علي, أحمد المانعي وآخرين ..ممن مشوّا إلى الموت بقاماتٍ تعلو بطاقةِ الشعر الذي غَيّبَ بعضهم كلياً وأحاطَ البعض الآخر بهالةِ من الصمت وليس الغياب, يكسرها واحدٌ بين الحين والآخر.
في قصيدة “بعد الواحد, قبل الاثين”
يقول الشاعر:
هل اِصطـدْتَ شيئاً
وهل اصطادكَ شئ ؟
وهل ايقنتَ أنّ حفـّار َ القبور ِ
لنْ يضعَ جثـــةَ انسانٍ في قبر
بلْ يضع قشـــّاً وخيوطاً وبقايا فضلات ؟
ـ وليسَ أكثرَ منْ عشٍّ هو الأنسان
” يا للأسئلةِ كيفَ اِختفتْ
وخلّفتْ الأجوبةَ وحدهـــا “
يسعى الشاعر في هذه القصيدة والقصائد الأُخرى إلى إقامة حوار داخلي مع ذاتهُ التي تنشطر وتتغير من قصيدة إلى أخرى متخذةً من حاضر أو نهاية الوقائع والأشياء مفتتحاً تنطلقُ منهُ بطريقة سرديّة تركّز على ضميرالمخاطب الذي يمتزج مع ضمير المتكلم في بعض الأحيان لتأويل ما يحدث الآن والذي يرتبط بشكل جوهري بالماضي, فالشاعر من خلال تفكيك الماضي يدونُ حياتهِ ورحلتهِ وموقفهُ من العالم , سيرتهُ التي بدأها قبلَ ثلاثين عاماً ودلالة الماضي هنا تتأكد في الأشارة إلى وقائع و مدن وأماكن و شخصيات أو حتى أسماء كونت ذائقت ومعرفة الشاعر ومراحل حياتهِ أو أبعدتهُ عن ذاتهِ أو منابعَ لهوهِ الأول ولعل الأدعاء في هذا المقطع على إن الأنسان “ليس أكثر من عش” لصوابٍ يدركهُ الشاعر الضحيةِ في نهاية المطاف حيثُ يرى ويقرُ بضبابية العالم وعدم وضوح صورة الأنسان
وكينونتهِ ومحدوديةِ أسئلتهِ المقيدة بالأجوبة ذاتها والتي تسعى أن تكون حاظرةً دائماً طالما تختفي الأسئلة , خاصةً الخائفة منها ساعةَ يفتكُ بها الواقع ويغلفها الزمن الوجودي بشموليته وطبائعهِ المعتادة أو ما رأتهُ بصيرة الشاعر مرةً وصدقتهُ ولم يكنْ سوى طيف من الألوان سرعان ما تلاشت حينما نادى عليها, ليبقى هو في حيرتهِ الأبديةِ بلا ملامح تدلُ على وجودهِ كما في هذا المقطع من نهاية القصيدة ذاتها,حيث يقول :
هلْ عرفتَ الذي يقودُ كلّ هذهِ
العـــرباتِ المأهولـــةِ
وعلى أيّ الطرقِ يأخذه
فلا طريقَ الى خلفٍ ولا طريق الى أمام
وهل عرفتَ الذي ألقاكَ
في هذهِ المزبلةِ ، وحـــيداً
ومضــى الى جنـــاته ؟
أخشى أنْ تقولَ : أنتَ
أخشى
إن الشاعر في إسلوبه الكتابي يعتمد على إستخدام اللغة الواضحة البسيطة المبتعدةِ عن
التراكيب اللفظيّة _ البلاغيّةِ
والتعقيد الفنّي _البنائي في مجمل قصائد المجموعة من أجل القبض على حالة شعرية
صافية خالية من الصناعةِ والترميز والإيهام المُرَكب
تحاول ان تشتغل على الصورة الشعريّة الحسيّة الصادمة أحياناً كما في هذا المقطع من
قصيدة:
“هو ونحنُ”
وعلـــى دروب ِ غـــيرنـــا
أمطــــرت ِ السمـــاء ُ ملائكــــة ً
أخـــذْنـــا حصـّـــتنا منـــها :
أسمــــاءَهـــا
وقــــد ْ عـَلـِـقت ْ بالريــــح ..
هكــــذا نفخـــر ُ بأنفســـنا
ونمــــدحـــها بلا حـــدود ..
إن تعليق الأسماء بالريح يُجرّدها من هويتها الأُحادية , بل يجعلُ منها أسماء
طليقة لا تنتمي إلى مكانٍ معينٍ واضح أو وطن يُحددّها فهي أسماء منفيّة تلعبُ بأقدارها ومصائرها
الريحُ ولربما قصدَ الشاعر حالة الا إنتماء التي يمنحها الشعر, وهنا أهمية هذه الصورة المجازية التي يعيدُ صياغتها الشاعر بلغةٍ ماكرةٍ لكن بدلالةٌ مختلفةٌ
في قصيدة ثانية : “رياح”
فــي جـنـّــــة ٍ لا نـهائـيــة ٍ
لـــن ْ أطلــــب َ شيئـــا ً
لنفســـي
الريـــــاح ُ تعـْـــبرنــي
وأنـــا
أَتــــذكـّـــر ُ
جـحــيما ً مــا ..
لاحظ التقارب النفسي والفني بين الصورتين مع إختلاف المعنى “جنةٌ لا نهائيةٍ ” “أمطرت السماء ملائكةً”
“أخذنا حصتنا منها” “لم أطلب لنفسي شيئاٍ” “الرياح تعبرني وأنا اتذكرُ جحيماً ما
” أسماءها وقد علقتْ بالريح “
أو في هذه الصورة الواقعية البسيطة من قصيدة “قوالب الثلج في الصحراء”
الحـربُ تشتعـــلُ
مـنْ
خاتمــــةِ
حــــــربٍ
أخـــــرى
ولا أرثيـــــك !
إنَ ما يميّز هذه الصورة الشعريّة وهي مقطع من قصيدة طويلة ,إنها تُعبّرعن الحرب
الذي يَعْمدُ الشاعر أن لا يضعها في إطارها الواضح والمباشر, فما يَدلُ على الحرب هنا
ليس سوى إستمراريتها كوّنها ناراً تشتعل ولا تنتهي إلا بحرائق تُخلف الدمار
الذي يدعو إلى الرثاء , لكن الشاعر هنا يقول, لا أريثكَ وكأنهُ قد فعلها منذ زمنٍ بعيد .
وليس الصورة الشعرية فقط ما يشتغل عليه الشاعر صباح خطاب في هذه المجموعة الشعرية الأُولى , بل يلجأ احياناً إلى تحقيق قولٍ شعري من خلال الأسترسال اللغوي الذي يأتي كلاماً في جملٍ قصيرة ومكثفةٌ تنبثقُ من بعضها البعض لتكبر في مجمل القصيدة كمتوالية واحدةٍ لكن معانيها ودلالاتها تتنوع كما في هذا المقطع من قصيدة “حياتيون”
يحـــفرُ لنا الحروبَ
فنحاربُ
ويأتــي بالأنتظـــارِ
وننتظـــرُ
نتناسلُ جهــاتٍ
لا يعرفُ كيفَ يسمّيــها
ولا كيفَ يدخلُ منها
اِليـــنا
وبذات النبرة التي فيها من الكلام ما يشبهُ الرثاء الذاتي في قصيدة “هدف ” يرسمُ لنا الشاعر ضعف الكائن -الأنسان وهمجية العالم من خلال ذاتهُ التي تتحول رأسُها إلى هدفٍ سهلٍ لمجرد أن تتحطم خُوذتها في أول الطريق
“هدف “
في أوّل ِ الطريقِ
تحطّمــت خوذتـُكَ يا رأسي العاري
وستأتيكً الطلقاتُ والصفعـــاتُ
وربـّمـــا البصـــاقُ أيضـــاً
فأنتَ الهدفُ الوحيدُ
وكلّـــهم المطلقـــــون .
وكلمة “كلهم المطلقون” ذكرتني بالمعادل الموضوعي الذي يجعل من القوة والتنافس مفتاحاً لديمومة الشرط الأنساني في الوجود
, ألم يقلْ الفيلسوف الألماني نيتشه ” بأن الأعراق الأكثر ضراوةً وقسوة هي التي تنتصر دائماً” إذن لا مكان للمهزوم في هذا العالم الذي يسودُ بوحشيتهِ
والتي تُمعنُ بضراوتها كلما ضَعُفَ الأنسان وغَفُلَ عن حالهِ,
بالإضافة للشاعرية التي وجدتها في القصائد التي تعدّت الثلاثين قصيدة, وجدتُ أيضاً
إن الشاعر لا يتردّد في إستخدام مفردات لم يعتدّها القاموس الشعري في مجالهِ اللغوي
الفني ومثال على ذلك كلمة “أيدز, جذام , نتانة , نورة, سلاميات , كراتيه , فلين ,خنازير بتلات , خباثة ,بكتيريا, هيروين…إلخ وهي مغامرة محفوفة بالمخاطر ربما إستطاع الشاعر أن
ينجو منها !! هذا ما أتركهُ لغيري ممن سوف يقرأ المجموعة , لكني أعتقد بأنهُ وأعني الشاعر إستطاع ان يضعها في سياقاتها الصحيحةِ بما يتلائم وجسد القصيدة وعالمها الشعري والذي منحهُ حياة كان هو في صميم حركتها مرئياً تارةً
ومتخفياً تارةً أُخرى لكنهُ يمسكُ خيوطها بهمةِ العارف في كلتا الحالتين,
لقد تأخر الشاعر صباح خطاب ردحاً طويلاً من الزمن في إصدار كتابهِ الشعري الأول
لكنهُ وصلَ أخيراً كهديةٍ أراد لها ان تكون في متناول أصدقائهِ فقط , وإن ثمن هذه الهدية يكمن في شاعريتها الجادة وصدق تجربتها المليئةِ بحيواتٍ تتماهي في أماكنها وأزمنتها وخطابها المُتيقّن بالشعر وحده.
أستراليا