18 ديسمبر، 2024 7:45 م

بطرسبرغ.. درس المقاومة وانتصار الارض!

بطرسبرغ.. درس المقاومة وانتصار الارض!

في متحف الكهرب الكائن في احدى ضواحى سانت بطرسبرغ الروسية، وتحديدا في مدينة بوشكين، يذهل العقل من الجمال وتضيع الروح في متاهات الأحجار الكريمة التي تؤّلف كل شي: الطاولة، المقعد، القلم، منفضة السكائر، وكل شيء. كان مذهلا ما اراه، وأشد ما أذهلنا تلك الآثار التي توثّق رصاصات بنادق الجيش النازي وهي تخترق مقتنيات المهزوم! 

هزيمة متوقفة..! 

ليس في متحف الكهرب وحسب؛ انما على جوانب الطرق المختلفة تنتشر بقايا من عظام الدبابات وهياكلها العظمية، تحكي قصّة الحصار المريع. بقربها مقابر لضحايا تلك الحرب التي راح ضحيتها اكثر من مليون ونصف المليون إنسان روسي كضحية للسلاح الالماني والجوع الذي تفرضه تلك الآلة الحربية المتقدمة. 

نسبة كبيرة تقترب من نصف شعب محاصر تفقد حياتها، فمن سوف يبقى ليحيي هذه الارض التي تمعن اقدام الألمان بإذلالها؟!

 جاء متأخراً ومعتذراً من رفاقه في الفرقة الموسيقية المحلية الروسية التي اسسها مع زملاءه  لحث المقاومة: آسف عن التأخير، فقد شغلتني اجراءات دفن زوجتي التي ماتت جوعاً! 

في هكذا اجواء مرعبة، لم يستسلم الروس في سانت بطرسبورغ؛ انّما فضّلوا الموت التدريجي وهم يقاومون آلة القتل والتجويع الالمانية. بدأ حصاد الأرواح في العام ١٩٤١ وانتهى في العام ١٩٤٤.. ثلاثة سنوات من الموت، كفيلة بتدجين الإنسان وصناعة روح الاستسلام في كوامنه، فلا كرامة ولا تراب له قيمة، طالما الموت هو النتيجة الحتمية. وليس ثمة من يشك بالنصر الالماني المتحقق، ولا شيء يخبر عن ضوء في ذلك النفق الداكن الرطب الموحش! 

نهاية الرعب..! 

في النفوس شمس لا ضوء، انّها ارادة الانتصار والحرية، ولا يمكن لهكذا ارادة ان تستسلم للموت: او الحياة الطفيلية الذليلة. 

كان من يبشر بها، فالمنتصر له اعوانه العملاء، وكانوا يثبتون مقولاتهم عن الواقع ليكونوا هم الاحرار المتطورين، بينما يتم تصدير الرافض للذل والاحتلال على انه متخلف احمق يلقي بنفسه إلى التهلكة.. بالضبط كما يحصل اليوم، في غزّة وفي جنوب لبنان، وهناك كذلك لم تؤثر فيهم الدعاية النازية. 

استمر حصار سانت بطرسبرغ (لينينغراد سابقا) ٨٧٢ يوماً، لتبدأ بعدها عملية فك الحصار. 

منها بدأت هزيمة المحور..! 

كانت رمزية المدينة كبيرة في نفوس السوفيت، إذ منها انطلقت الثورة البلشفية التي أسّست اولى الدول الشيوعية، وقد حملت اسم (لينين) المؤسس لتلك الدولة وقائد ثورتها. احتلالها يعني انهاء تلك الرمزية وبالتالي سقوط التجربة الشيوعية، لذا ركز هتلر، كما يفعل اليوم نتنياهو، على تلك المدينة وحاول بكل ما اتيحت له من قوة ان يكسرها. بيد أنّ الاصرار في بعض الاحيان يتحوّل إلى انتحار، وهو ما حصل بالفعل، إذ شكّلت عملية فك الحصار عن “لينينغراد” بداية الهزيمة لجيوش المحور، وقد انهارت دول وجيوش عظمى بعد اقل من عام واحد، ابرزها المانيا وسقوط الرايخ بيد الجيش الاحمر، وإيطاليا وانهاء عقيدتها الفاشية واليابان وإمبراطوريتها التاريخية. 

نظام دولي جديد..! 

وبعد هزيمة المحور التي تبلورت بداياتها اثناء طرد الألمان من سانت بطرسبرغ (لينينغراد) تشكل نظاماً دولياً جديدا يقوده المنتصرون في تلك الحرب التي تأسس بعدها بثلاثة سنوات كيانا جديدا في فلسطين، قوامه ابناء الديانة اليهودية التي عانت من الاضطهاد الأوربي وابرزها ما تعرضت له في الهولكوست وفق السردية اليهودية. 

هذا الكيان يمارس اليوم أبشع الجرائم ضد اهل الارض، ويحاول تدجين شعوب المنطقة بكاملها وفق فرض التطبيع اختياريا وقسريا لينفذ فرضية “الشعب المختار” و “العرق المتفوّق” كما كان يفعل هتلر، بيد أن الكيان ضاعف من جرائمه التي يحاول ان يلبسها ثوباً “ديمقراطيا”. 

نهاية الإجرام..! 

ذكرى حصار سانت بطرسبرغ، وغيرها من الاحداث التاريخية تشير بما لا يقبل الشك إلى عدم وجود امكانية ولا وسيلة مهما بلغ أجرامها، قادرة على إخضاع الشعوب او تطويعها، فالإجرام ومهما تغوّل نهايته الهزيمة. ربما لم تتعرض غزّة او ضاحية بيروت الجنوبية إلى جزء من الذي تعرضت لها عاصمة روسيا القيصيرية، مع أنّ المقاومة هنا أبدعت في إفهام الكيان بكونه مرفوض وغير قادر على الاستمرار بمشروعه، فلا الارض يعرفها ولا موارده البشرية قادرة على مقاومة المقاومة وشعوبها الرافضة لوجود جسد غريب يتسبب بكل الخراب الذي تعانيه المنطقة.