رغم إن إدخال الحرف ، والنص يؤلف منذ العقد الثاني من القرن العشرين لدى الفنانين الأوربيين ، والأمريكيين أيضا في فترة لاحقة ، ومنذ العقد الرابع لدى الفنانين العرب المعلم الأساس لسلسلة واسعة من التجارب التشكيلية ، ورغم ان بعض النقاد الأوربيين يقيمون حدا فاصلا بين الفن من جهة ، وبين فن الخط العربي من جهة ثانية ، منطلقين من نظرة جمالية أوربية المركز والمنطلق والهدف ، إلا ان تجارب الفنان التشكيلي العراقي في هذا المضمار تتميز عن نظيراتها بقدرته على توظيف متآلف للحرف والنص مع مضمون فكري ونفسي واجتماعي ، تلك الخصوصية تتجاوز حدود تأكيد العلاقات التقليدية القائمة بين الخط والرسم ، إلى اجتهادات رصينة وواضحة في البحث التقني والأسلوبي والفكري دون ان تضع قناعات نهائية تحدد الاتجاه ، بل ابقوا الفضاء مفتوحا واسعا يستوعب المزيد من التغييرات ، والمزيد من التفاعل ، وربما يعكس هذا التميز في التعامل مع هذا النمط من الفن واقع المجتمع العراقي المأزوم بجملة من التحديات والهموم التي يعيشها الناس على الصعيد الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي ، وبالتالي جاءت ردود فعل الفنان التشكيلي العراقي مباشرة ، شجاعة ، ملؤها التحدي من جهة ، قلقة إزاء ما ستؤول إليه الأحداث من الجهة الثانية ، فالتشكيلي العراقي يسعى دائما لاستثمار طاقاته وإمكاناته لكي يبلور عبر هذه المواقف وعيا عصريا ومدنيا يعكس التزامه بقضايا شعبه ، ويكون عنوانا من عناوين بناء الذات الإنسانية التي تستشعر قضايا الوطن .
والمتابع لمسارات الفن التشكيلي العراقي يجد ان توظيف الحرف العربي والنص ، بل والمفردات المستقاة من تأريخ العراق ، أصبحت علامة بارزة في مضمون العديد من الأعمال ، بوصفها توجها يشعرهم بالانتماء والوحدة ، حيال قلقهم من التبعثر ، هذا الإطار ألمفاهيمي الذي جمع العديد من التيارات حتى المتناقض منها أحيانا ليس بالأمر الغريب عن إبداعات الفنان التشكيلي العراقي ، فقد جاء في بيان معرض (البعد الواحد ) الذي أقيم في بغداد عام 1971 ، والذي شارك فيه العديد من عشاق هذه التجربة مثل شاكر حسن آل سعيد وضياء العزاوي ورافع الناصري : ان الحرف العربي والحرف عموما يمثل عناية الفن المعاصر بالمضمون الفني بوصفه قيمة وليس مهارة ، وبوصفه أيضا انعكاس ما لفكرة فلسفية ، انه قيمة بمعنى كونه شكلا- مضمونيا .
على سبيل المثال: وفي إطار سمة التجديد والتفاعل مع الحدث التي يتميز بها الفن التشكيلي العراقي تتصدر أعمال التشكيلي حازم جياد واجهة العطاء ، بانطباعات تشكيلية تتجلى في عوالمها قضايا مأزومة مثيرة للأحاسيس ، تظهر بلا ريب أرق الفنان وانفعاله ، مع بصمة حاول جياد من خلالها تجنب الوقوع أسيرا للحرف ، أو النص فلم يشأ ان يرصع أعماله بحروف ونصوص تزينية من السهل حذفها ، كما انه حرص كثيرا على ان لا يكون الحرف او النص محورا أساسيا في لوحته يجتذب كل زوايا الانتباه والتأمل ، وإنما كانت اللوحة بكل مفرداتها وتمثلاتها الزمانية والمكانية جزءا من الحالة الانفعالية التي يسعى جاهدا للتعبير عنها ، بحيث يدفع المتلقي إلى أقصى درجة من الانتباه والانشغال الجمالي والتأمل الفكري .
ويبدو ان الطاقة التعبيرية للفنان التشكيلي العراقي تتأثر كثيرا بمحيطه إلى درجة كبيرة يضع معها قانون حركة جديد مفاده ان لكل فعل رد فعل يضاعفه في القوة ويحيطه من كل اتجاه ، ورغم براعة الفنان العراقي وقدرته على التعبير ، إلا ان ما يطمح إليه من رسالته الفنية يتخطى أحيانا حدود الامكان إذا ما وضع بنظر الاعتبار جماهيرية رسالته ، وخصائص المتلقي ، تلك العوامل التي تشده دائما إلى اختزال الحدث بجوانبه المختلفة بطريقة تنتج عملا معبرا يستثير المتلقي ويتمتع بمشاهدته ويتأمل معانيه ، تلك السمة تبين لنا ان الفنان العراقي يعرف تماما من أين أتى والى أين يذهب .
وبين ثنايا الطاقة المتأججة في عوالم الفن التشكيلي العراقي وبحث فنانيه المتأني عن أفضل توظيف للحرف والنص مع الحدث تظهر مفاجئات تفرضها خصائص الإبداع ، حيث ينعتق اللون ، والحرف من حدوده إلى أبعاد أكثر حرية ، فتجد حروفا نافرة عن نصها ممتدة في فضاء اللوحة ، وأخرى ملتئمة مع اللون حد الذوبان بالمضمون وهكذا تقرر اللوحة مصيرها لتكون ما ترغب ان تكون عليه ، تجمع بين صدى الانفعال الداخلي بإرادة الفنان الواعية مع تجريدات ورموز الطاقة الانفعالية في اللاشعور بحيث يعجز التشكيلي العراقي أحيانا ، وبفعل شفافيته عن ضبط مسارات العمل مهما حاول وتلك من مزايا الحب والانتماء والبساطة التي يتصف بها الفنان التشكيلي العراقي