يبدو أن محافظ البصرة د/خلف عبد الصمد ، بدأ بصب جهوده على ما هو خدمي ، مؤجلا المشاريع الثقافية ، وما يتعلق بها من شؤون ثقافية كثيرة ، ظناً منه أن الشؤون الثقافية شبه كمالية في الوقت الحالي ، فهي تحتمل التأجيل ، أقول التأجيل فقط ، ذلك لإيمانه بالدور الذي تلعبه الثقافة في المجتمعات ..
قد يرى في الخدمات الماسة أهمية قصوى في إيجادها، وصب كل الجهود عليها ، وصرف الجهد والمال والوقت وبالسرعة الممكنة ، وهذا ما لا يختلف عليه اثنان ، إلا أن ضرورتها لا تلغي ضرورة ملازمة ما هو ثقافي لها ، ويعزز ذلك وجود الطاقات الثقافية الخلاقة والمتميزة التي تمتلكها البصرة ، فاللجان المعنية بالخدمات ، لن يعيقها عمل اللجان المعنية بالثقافة ، وليس ثمة تقاطع في عمل الاثنين ، بل على العكس ، فإن الاهتمامات بهذا الجانب يترك بصمة هامة لصالح المحافظة ، كبناء المسارح وقاعات العروض الفنية ، والتجمعات ، والنشاطات الأدبية ، كي تسير الثقافة جنبا الى جنب مع كافة الخدمات ..
إن متابعة الهم الثقافي أمر غاية في الأهمية ، سيما بعد الانهيار الذي لحق بكل ما هو ثقافي في المدينة ، ونافذة أمل لتحريك نهر الثقافة الراكد ، في مدينة تُعدّ حاضرة الثقافة ، فبصرة الجاحظ ، والسياب ، وسعدي يوسف ، والبريكان ، وكاظم الحجاج ، ومحمد خضير ، ومحمود عبد الوهاب ، وتطول قائمة المبدعين .. بصرة تنحني عندها القامات ، وهي تحتضن مرابدها العامرة بالأدباء والمثقفين دون أن يقيدها الانتماء للجوار الجغرافي ، بل تتعداه إلى ما وراء القارات ..بصرة جديرة بالنهوض بها على نحو لايحتمل التأجيل .
نحلم وهو حقنا جميعا ، نحلم ان نرى شوارع معبّدة ، لكن بصروح ثقافية ، من مسارح ، وصالات عرض ، وسينمات ، ومنتديات تلم شمل المثقفين المشردين الذين بلغ ببعضهم أن يؤسسوا منتدياتهم الثقافية على الأرصفة .
قد يتفق أن يرسم المحيطون بسيادة المحافظ ، صورَ أحلامهم عن بصرة الغد ، فالمهندسون بتصاميمهم المعمارية العصرية ، والمستثمرون مثلما يأملون ، والمهووسون بكل ذلك ، وهم يقدِّمون ـ حلمهم ببصرة عامرة بالخدمات ـ على أحلامهم التي تنزع لما ثقافي ، وو.. الخ ، إلا المثقفون فإنهم لم يبدوا مشروعهم الثقافي ، أو يخرجوه للعلن ، فلعل سبب ذلك غياب المعنيين المتخصصين بالمجال الثقافي ، كمستشارين في المحافظة ، ولم يكن لهم ـ بإرادتهم أو بدونها ـ موضع قدم أو (نَفَس) ، ليبدعوا في رسم أحلامهم عن بصرة الثقافة ، بريشة مختلفة ..أو أن لهم رؤيا لم يظهروها للعلن ، في عدم مدّ جسورهم مع المحافظة ..
في ذاكرة الكثير من مثقفينا ، وعْدُ المحافظ السابق د.شلتاغ ، والذي أشعر ببصيص أمل ، وعْدُه بتحريك المسرح في المدينة بعد سباته الطويل ، وتوقعناه أول الغيث في إعادة النظر للمشاريع الثقافية ودعمها ، إلا أن انصرافه لهموم المحافظة ، بعيدا عن مناخات الثقافة ، حال دون التزامه بوعده ، فتعثر المشروع الثقافي برمته .. لا نتمنى على المحافظ الجديد أن يقع بما وقع به سواه ، مع قدرته على النهوض بالواقع الثقافي ، وهو أي المحافظ الجديد ، إن أبدى حراكا في هذا المجال ، حراكا فاعلا لا خجولا ، مبتدئا بمد الجسور مع كل مثقفي البصرة ، وهو بهذا سيسجل في سفر التاريخ المعرفي قفزة لم يسبقه إليها أحد منذ زمن بعيد .