عاش هذا المكان الموشوم بقدر ضرع الجاموسة وسمكة الماء ودلال البط الخضيري أزليته منذ أزمنة السلالات السومرية من غير تبدل في نمط العيش والمأكل والملبس ، فطوال سنوات عملت معلما في هذه القرية لم تتبدل الاشياء الرصاصية و( الملحة الترابية ) والسوداء من طبيعة تكوينها لتتغير الى لون آخر ، حتى في المصادفات الغريبة بعد زخة مطر في شتاء دافئ عندما يظهر قوس قزح بألوانه الزاهية ، الأطفال يودعون عنده ابتساماتهم ودهشة عابرة ويتذكروه عبر المعتقد والاسطورة ولكن لا يتحدثون عن الوانه وذلك البريق المقوس الذي يعتبره اطفال الغرب هنا مركبة فضاء يتمنون أن تنقلهم الى الكواكب الاخرى.
راقبت متغيرات هذا المكان فأشعر أن هناك مناسبات قليلة من تغير شيئا من التلوين الأزلي والثابت في حياتهم ، ففي العيد يبدل الاطفال دشاديشهم ويرتدون ثيابا مقلمة يشترونها جاهزة من خياط يدور على القرى بشختوره قبل مجيء ثلاثة مناسبات ، هما عيدي الفطر والاضحى وفي شهر محرم حيث مصيبة عاشوراء ، وكانت ومعه ماكنة خياطة قديمة يحتاجها لتعديل وضبط الثوب على الطفل الذي يشتريه فإذا كان طويلا يكف اذياله وإذا كان قصيرا يفتح ( الكفه ) ، وفي الاعياد كانت الثياب التي يبيعها مقلمة وملونة من قماش ( البازة ) ، وفي عاشور يبيعهم الدشاديش السود من قماش ( الكودري ) .
لهذا كنت اعرف تفاصيل وملامح الوجوه عندما تلبس البازة المقلمة أو الكودري الأسود.
يوم بدأت الدولة تعمل بنظام التغذية المدرسية في سبعينات القرن الماضي ، وكانت تصلنا اسبوعيا وجبة من كراتين البسكويت أبو الجمل وعصير البرتقال بنوعين النادر والفرات ، ومرات تجيء لنا وجبات من حليب سائل مكثف ماركة نستله بعلب صغيرة .
شاع لون جديد من مرح ملون في وجوه الاطفال عندما صاروا يجيئون الى المدرسة أن يحشوا بطونهم بخبز الطابك الثقيل ، ليحصلوا على وجبة حضرية من البسكويت والعصير والحليب ، وسمعت انهم اصبحوا يسمون البسكويت الذي نوزعه ( بسكت الجنة ) .
وحين سألتهم من اين اتيتم بهذا الاسم .؟
قالوا أن المعلم ( قاسم ) قال لهم :هذا البسكويت لا يوجد سوى في مكارم رئيسنا الطيب ( البكر ) والجنة عندما تصعدون اليها وانتم تركبون هذه البعران المرسومة على البسكويت.
ضحكت ، وسألته في الادارة وكنا وحدنا : أن كان هو صاحب هذه التسمية والوصفة السحرية للبسكويت .؟
قال : نعم .
قلت ولكنك لست حزبيا حتى منحت الرئيس البكر صفة المانح لهذا البسكويت وهو اصلا من مال الشعب وبترولنا .
قال بصوت هامس : انها نكاية ، بالمعلم ( فلان ) الذي يتفاخر في الاصطفاف ان هذا البسكويت من مكارم الثورة.
قلت : واصعدته الى مرتبة ان يكون هذا البسكويت اتيا من الجنة.
قال :ولما ، البسكويت مصنوع من الطحين ، والخبز مصنوع من الطحين . اذن هما في ذات المرتبة التي توصل الجياع والفقراء الى الجنة.
قلت : تفسير مقبول .
قال :اذن ثقف التلاميذ أن هذا هو بسكويت الجنة فنحن على ابواب حرب مع ايران كما تقول البيانات وربما لايذقوا البسكويت مرة اخرى.
وفعلا اندلعت حرب المخافر بين العراق وايران ولم يمر عامان حتى انقطعت التغذية المدرسية عن المدارس وصار طعم بسكويت الجنة ماركة ( البعير ) شيء من ذكرى شهية طعم الفانيلا في أفواه التلاميذ.