23 ديسمبر، 2024 7:21 ص

بسبب نشره كتاب علي سلطة الحق : قصة اعتقال الراحل عزيز سيد جاسم

بسبب نشره كتاب علي سلطة الحق : قصة اعتقال الراحل عزيز سيد جاسم

نهاية عام 87 ، حصلت مشكلة كبيرة اعتبرتها آنذاك كارثةالكوارث ، فقد أخبرني الدكتور  محسن الموسوي (كان مدير عام دارالشؤون الثقافية ورئيس تحرير مجلة افاق عربية ) انجهاد فاضل سيصل مساء اليوم الى بغداد قادما من بيروتوطلب مني ان استقبله في المطار ، جهاد كان مراسل مجلةافاق عربية في بيروت وهو صحفي لبناني قدير ومعروف فيالاوساط الصحفية والثقافية اللبنانية ، وسبق لي ان استقبلتهعدة مرات حين وصوله الى بغداد التي يتردد عليها بين الحينوالاخر ، بعد التاسعة ليلا استقبلت جهاد , وبينما كان يضعحقائبه في صندوق سيارتي قال هذه الحقيبة ارجو ان تسلمهاللدكتور ، كانت حقيبة يد صغيرة ، انطلقت مع جهاد نحو فندقالمليا منصور حيث مكان ضيافته ، ونحن في طريق المطار قالجهاد جلبت معي خمسة كتب للدكتور ، الا ان اجهزة الامن اوالكمارك لا اتذكر قد اخذت نسخة من هذه الكتب وبقيت فيالحقيبة اربعة ، لم اعلق ولم اسأل عن تفاصيل او عناوين هذهالكتب ، لان الامر كان طبيعيا ان تصادر بعض الكتب التيلاتنسجم مع سياسة الحكومة انذاك ، وصلنا الى الفندقحوالي الساعة العاشرة ليلا ، ودعت جهاد على امل ان يأتيصباح اليوم التالي للقاء الدكتور في مكتبه واسلمه الحقيبة ،بيتي كان يبعد حوالي 100 م عن الفندق ، اذ كنت اسكن فيشارع حيفا في العمارات السكنية ، ونويت ان اتوجه للشقةبسبب تأخر الوقت ، لكني لااعرف في لحظة ما لماذا تذكرتقصة جهاد حول مصادرة نسخة من الكتب التي جلبها ، ومرعلي شريط سريع من الاحتمالات المزعجة والمخيفة ، الامرالذي دعاني للتوجه الى بيت الدكتور فورا وتسليمه الحقيبة ،كان يتوقع ان يكون معي جهاد ، قلت له سيأتيك غدا للمكتب ،فدعاني للجلوس الا انني اعتذرت بسبب تأخر الوقت ، ودعتهوعدت الى البيت وفي داخلي الكثير من الهواجس والشكوكجعلت ليلي طويلا وفي داخلي الكثير من القلق.

مداهمات واعتقال

حين وصلت الى دار الشؤون الثقافية صباح اليوم التالي ( اذ كنت المدير الفني للدار ومجلة افاق عربية ) ، كان الصمت يملأالمكان ، كل من في الدار في حالة ذهول وارتباك ، توجهتمباشرة الى غرفة ام زينب سكرتيرة الدكتور ، وقبل ان اسألقالت لي لقد اعتقلوا الدكتورواخيه عزيز بعد منتصف ليلة امس، قلت لها بعدما اصابني الارتباك والخوف , كيف عرفت ذلكوماهي الاسباب قالت : زوجته اخبرتني ، لكنها من لم تذكرالسبب انما ذكرت تم تفتيش البيت واخذوا معهم حقيبة صغيرةوصلت اليه مساء امس من بيروت. .

لم اتحدث مع احد ، عدت الى غرفتي مذهولا خائفا مرتبكا ،وتسائلت مع نفسي ماذا في طيات  تلك الكتب من افكار لدرجةان تدفع السلطة للقيام بعملية الاعتقال بعد ساعتين من وصولالكتب ؟ ماهي علاقة سيد عزيز بالامر اذا كانت الكتب مرسلةالى الدكتور ؟

ثم هل يعقل ان يقدم الدكتور على عمل ضد السلطة وهو الذكيوالمحترس والمسالم ؟ وكيف يمكن التعامل مع هذا الامر ؟ لماتوصل الى اجابة لأن القضية اكبر بكثير من حجم الاجاباتالاستنتاجية ، لكن ثمة ايضاح واحد ورد الى ذهني ، ان هذاالاجراء لايمكن ان يحصل الا من خلال توجيهات عليا مشددةيجب تنفيذها فورا.ً .

بقينا اكثر من اسبوع لاحول لنا ولاقوة وليس لدينا من نستعينبه ، ولانعرف ايضا ماهي اسباب الاعتقال ، ومكانه ، بللانعرف ايضا مصير الاخوين . فقط جاء توجيه من الوزارةبتكليف عبد الجبار العمر بأعتباره نائب رئيس مجلس الادارةبتمشية الامور. .

بداية الاسبوع الثاني، ومن خلال بعض الاصدقاء المقربين منالاجهزة الامنية عرفنا ان سبب الاعتقال هو قيام السيد بتأليفكتاب عنوانه علي سلطة الحق تم طبعه واصداره في بيروت ،والكتب التي جلبها جهاد فاضل كانت نسخ من هذا الكتاب. .

لم يسمح لاحد في الشهر الاول القيام باية زيارة لهما ، وعرفناانهما معتقلان في مديرية الامن العامة على ذمة التحقيق. .

استمر اعتقال الدكتور محسن حوالي ثلاثة اشهر ، واطلقسراحه ، دون اية عقوبات او ادانات ،لكن السيد بقي فيالاعتقال وعرفت فيما بعد انه تعرض للتحقيق المطول والمفصل ،وحين باشر الدكتور بالعمل ،لم اشأ ان اسأله عن ظروفالاعتقال وماهي اسباب اعتقاله ، ظنا مني ان في ذلك بعضالاحراجات ، لكنه همس لي ونحن نتمشى في اروقة الدار منان توجيها قد صدر بقيام السيد بكتابة اربعة كتب عن الخلفاءالراشدين وهو في المعتقل ، ومسألة اطلاق سراحة مرهونةبأصدار هذه الكتب ، و…. عليك الباقي … (كانت تربطني بالسيد علاقة حميمة وخاصة جدا ، فقد تعلمت منه واحببته وكنت الى جانبه دوما ).

السيد يكتب في المعتقل

في غضون اقل من شهرين انهى السيد تأليف كتابين ،وارسلت نصوصهما الينا من الوزارة، وبالتأكيد عرضت علىجهات معينة لغرض التدقيق ، استلمت نصوص الكتابين،ووزعت الكتابين على اثنين من اكفأ المنضدين وبوجبتي عمل ،قبل ذلك اتفقت مع عمران الموسوي ( كان مدير النشر)بتخصيص مصححين اثنين اكفاء ، وجرى الاتفاق لتصحيحكل ماينجز من التنضيد خلال اليوم الواحد للتعجيل بأنهاءمرحلة التنضيد والتصحيح ، بعد انهاء مرحلة التنضيد والتيلم تستغرق سوى اسبوع واحد ، توليت مهمة التصميم والتنفيذفي آن واحد دون احالتهما للقسم الفني ، وخوفا من المراقبة اوايصال معلومة مفادها من انني اولي اهتماما استثنائيا بكتبالسيد ، فقد كنت اقوم بهذا العمل في البيت وبعد اوقات الدوامالرسمي حيث استمر حتى ساعات الفجر ، انهيت العملبالكتاب الاول في ظرف اسبوع ، واحلته للطبع مباشرة ، بعد ان استنفرت الطاقة الطباعية لانجاز العمل بأسرع مايمكن ،قبل ذلك انهيت تصميم اغلفة الكتب الاربعة حيث اعتمدتالشكل الموحد مع تغيير الالوان والعناوين ، حتى لايصار الىالتفاضل بين هذا التصميم او ذاك من قبل بعض ممنيتصيدون في الماء العكر ، طبع الكتاب الاول وطبع غلافهوصدر، حينها اكملت الكتاب الثاني وصدر ايضا ، واستغرقت العملية اسبوعين فقط ، وبقيت بأنتظار الكتابين المتبقيين، .

وصل الخبر الى السيد ، وابلغني صديق كان يقابل السيد فيالمعتقل وله صلة بالامن ، ان السيد فرح بهذه الاخبار معلقا : ابو الروض مايحتاج توصية. .

بعد فترة سلمني الدكتور نصوص الكتابين المتبقيين ، وتماصدارهما في غضون اسبوعين ايضا ، وبذلك انجزت المهمةفي ظرف شهر واحد ، والحمد لله قبلت الكتب نصا وتصميماوعناية ، وارسلت نسخا منها الى الوزارة والتي حتما ارسلتالى الرئاسة ايضا.

فرح يعقبه حزن وألم

في الوقت الذي كنا ننتظر الافراج عن السيد بعد انجازه المهمةالتي كلف بها مرغما ، واذا بخبر صاعق ينهي فرحتنا بانتظارالافراج عن السيد ، فقد اوصل لي الدكتور معلومة مفادها انتوجيها قد صدر على ان يكتب السيد كتابا عن صدام ، قالهاوهو في غاية الحزن والالم لسببين الاول كيف سيتعامل السيدمع هذا التوجيه ، وهو المعروف بغضبه ومواقفه المبدئية التيتحمل بين طياتها الكثير من الرفض والتمرد ، والثاني الخوفعلى صحة السيد لأنه كان يعاني من عدة امراض، .

لكن السيد يبدو انه تعامل مع الامر بهدوء وروية ، وربما تحولالرفض او التمرد في لحظة ما الى الرضوخ الى الامر الواقعحتى وأن كان لايحقق القناعة المطلوبة لكنه يمكن ان يحققالخلاص المنتظر من محنة ما ربما ستطال حياته او البقاء في السجن مدى الحياة .

اذن اصبح مصير السيد في ساحتي ، وبدأت افكر في كيفيةاظهار الكتاب بالشكل الذي يبهر صدام ، خططت لتصميمالكتاب بالقياس الكبير الذي يشبه قياس مجلة افاق عربية ( كنت المسؤول الاول عن كل تصاميم الكتب واغلفتها التي تصدرها الدار) ، وبدأت احضر لمجموعة من الصور لصدامفي مختلف المناسبات ، وحرصت ان انتقي هذه الصور مركزاعلى الصور التي لم تنشر سابقا ، ولان امر اصدار الكتاباصبح رسميا ، فكان من السهولة علي ان ابحث عن تلكالصور في ارشيف ستوديو الرئاسة ، جريدة الثورة ، جريدةالجمهورية  ، مجلة الف باء، مجلة صوت الطلبة ، مجلة وعيالعمال ، اذ استطعت ان احصل على اكثر من مئة صورةلصدام عبر عملية البحث هذه ، كنت اخطط ان تكون لصورصدام حيزاً كبيراً في هذا الكتاب مع وضعها في تجانسوتوافق مع النص ، اذ ان صورة صدام في ذلك الوقت كانتاكبر واهم بكثير من النصوص الذي تكتب عن صدام ، هكذاعرفت اللعبة في وقتها , استحضرت كل مستلزمات التصميم ،وصممت الغلاف بدون عنوان وبقيت في انتظار النص الذيسينتهي من كتابه السيد بعد ان يعرض كالمعتاد على لجنةخاصة لاقراره للنشر.

ايام عصيبة وقلقة

كنت اطلع الدكتور على كل هذه الاجراءات ، وكان فرحا بها ،لكن الوقت يمر والسيد مايزال في المعتقل يكتب ، ويكتب عنمن ، عن صدام ، وأي خطأ او اية عبارة قد لاتعجب صدام ،يمكن ان تودي بحياة السيد. .

كانت ايام عصيبة وقلقة ، وكان قلق الدكتور اكبر من قلقي لأنهيعرف مزاجيات السيد ، كان خائفا من ان السيد قد يكتبشيئاً ضد صدام ويتقبل انهاء حياته ، على ان لايكمل كتابةهذا الكتاب ، وهذا ما اثار الرعب والخوف في نفسي ، لكنالسيد كما قلت كتب رضوخا للامر الواقع المرغم عليه للحصولعلى فرصة الخلاص. .

بعد حوالي الشهرين ورد الينا كتاب السيد عن صدام عنطريق الوزارة ايضا ، ، حين قرأته في يوم واحد شعرت بلواحسست ان كاتب هذا الكتاب هو ليس عزيز السيد جاسم ،وكأنه شخص اخر تقمص الاسم ، لان منهج الكتابة ليس هومنهج كتابة السيد ، وقلت مع نفسي هذا مايجب على من يقرأهذا الكتاب ان يعرف كيف كتب ولماذا ، فلم تحمل نصوص الكتاب اية صيغة للمديح او التأليه انما تضمنت صفحاته معلومات عامة يعرفها الجميع ومتداولة في الصحف والمجلات ، ويمكن ان اقول ان الكتاب كان عبارة عن مظهر مزين بالصور والاخراج الطباعي المميز ، ولكن بدون قضية تذكر او موقف يناقش، والحمد لله قد مر الكتاب وفي اعتقادي لم يقرأ انما كان حجة لايذاء السيد وتعذيبه نفسيا وهذه جزء من اساليب النظام السابق في ايذاء المعتقلين ومن هم ضده في الافكار والممارسات ومسارات سياساته القمعية .

عملت على تصميم الكتاب بالشكل الذي يبهر صدام وحاشيته،اذ كنت مضطراً ومرغماً من اجل التعجيل باطلاق سراحالسيد ، استخدمت في الكتاب اكثر من مئة صورة للعديد مننشاطات صدام ، وركزت على الصور التي  ترضي غروره ،بالرغم من انني كنت في صراع مع نفسي كوني تحايلت امامالتأريخ في اظهار هذه الشخصية بهذا المستوى الذي لايستحقه ، لكن قضية السيد كانت اكبر من هذه اللعبة الزائفةالتي اضطررت ان اقوم بها، وفي حقيقة الامر لم تحملنصوص الكتاب اية صيغة للمديح او التأليه انما تضمنتصفحاته معلومات عامة يعرفها الجميع ومتداولة في الصحفوالمجلات ، يمكن ان اقول ان الكتاب كان عبارة عن مظهر مزينبالصور والاخراج الطباعي المميز ، ولكن بدون قضية تذكر اوموقف يناقش، والحمد لله قد مر الكتاب وفي اعتقادي لم يقرأانما كان حجة لايذاء السيد وتعذيبه نفسيا.

حين صدر الكتاب بحلة انيقة وجميلة ،  حمله الدكتور في مساءيوم صدوره الى الوزير( لطيف نصيف جاسم) ، وفي صباحاليوم التالي كان السيد في بيته بعد ان اطلق سراحه ، وكنتمعه في البيت مساء نفس اليوم .

*جزء من فصل في كتابي الذي صدر مؤخرا بعنوان ( رياض عبد الكريم .. سنوات التحدي والاصرار) .

[email protected]