23 ديسمبر، 2024 11:45 ص

بريطانيا وتأثيرها في صنع القيادات الدينية – مناقشة تاريخية / 1

بريطانيا وتأثيرها في صنع القيادات الدينية – مناقشة تاريخية / 1

يتردد بين الحين والآخر حديث عن تأثير بريطانيا في حوزة النجف، فالناس بين مصدق ومكذب، هل هناك تأثيرات حقيقية ؟ وما هو وجه التأثير؟ وهل يُعقل أن الحوزة  يمكن أن ترضخ لدول معروفة التوجه والغاية؟ وما هي أساليب التأثير؟ فكثير من الناس وخصوصاً بعض من ينتمون إلى المذهب الشيعي لا يصدقون بوجود هذا التأثير، وهم الذين يسيرون على طريقة لا تدخل في شأن المرجعية، ويصمون آذانهم عن الحقيقة مهما كانت درجة وضوحها، فهم لا يريدون التصديق بوجود هذه التأثيرات، لأنهم خضعوا لنمط من الثقافة التي اتبعها بعض من ينتمون إلى المؤسسة الدينية، وهم ممن ينتفع من إخفاء الحقائق. وقد شاركت المؤسسة الدينية (المستفيدة من تعتيم الحقائق) بدرجة كبيرة في نشر هذه الأفكار، مثل لا يجوز الخوض في حديث فيه مساس بمرجع ما حتى لو كان صحيحاً، أو أن الذي يتحدث بهذا الموضوع فأنه مدسوس يريد تدمير الشيعة وهو يعمل لصالح إسرائيل. أو إشاعة فكرة (المجتهد إذا أصاب فله كفلين وإذا أخطأ فله كفل واحد) وهذا الحديث الذي نسب لرسول الله (ص) أشاعه بعضهم تبريراً لمواقف سلبية اتخذها بعض ممن يظن بعصمته تقريبا، وقد تبنى أبناء العامة هذه الفكرة وروجوها لإيجاد الأعذار. فتحت هذه المقولة برروا لجريمة خالد بن الوليد بقتله مالك بن نويرة ، كما برروا لابن ملجم قتله عليا (ع)، وإنهم اجتهدوا فأخطأوا فلهم كفل من الأجر..
و قصدهم من إشاعة هذه الفكرة القبول بكل ما يرد عن المرجع وان لم تنطبق عليه الشرائط الواجب مراعاتها في تقليده.
أو تغذية فكرة أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ، ومنشأها من بعض الصحابة الذين لم يتمكنوا من مجاراة علم علي (ع) فأرادوا خلط الأوراق على الناس بإشاعة هذه الفكرة. واليوم تشاع هذه الفكرة الغرض منها تضييع الأحق بالإتباع، وهي ذريعة يتستر خلفها بعض من لا يريد البحث والتنقيب عن الحقيقة. في حين أن الأئمة (ع) يؤكدون دوماً على أن تكون قيادة الأمة بيد أعلم أهل زمانه ولا بد أن يكون واحداً ، وكل الأدلة قامت على أن تكون القيادة بيد من هو الأعرف والأعلم بأمور زمانه.
 وغيرها من الأفكار التي أضاعت الحقيقة على الناس، فأصبح المصلح والرسالي مخرب ومدمر للإسلام والمذهب، والمخرب الحقيقي يختبئ خلف سذاجة وبساطة الناس، ويستخدمهم في بعض الأحيان كسلاح يقتل به أهل الحق، وقد حصل هذا الأمر على مستوى التاريخ القريب والبعيد، فما معاوية إلا واحد منهم، فأنه استخدم أهل الشام لمقاتلة علي (ع). ومن كان يقف وراء إشاعة التطبير والمشي على الجمر وراء قتل شخصيات بارزة، وعلى الصعيدين، المادي والمعنوي.
فبات الحديث عن الحقائق تهمة يمكن توجيهها لمن يطمح لتغيير الواقع الفاسد، ليبقى المنتفع من التعتيم وتجهيل الناس مهيمناً ومسيطراً على مجريات الأمور. مع هذا لا بد من كشف الحقائق وإيضاحها للناس مهما كلف الأمر.
إن قضية التأثيرات البريطانية على الحوزة العلمية هي ليس من نسج الخيال، ولم يأت بها العدو اللدود للعرب والإسلام ( إسرائيل ) وإنما لها واقع حقيقي وملموس، ولا يتصور احد أنها محاولة لتسقيط جهة ما او شخص ما، او لعل البعض يتصور أن هذا الحديث نابع عن ضعف في مواجهة الواقع، وإنما هي حقائق نرى من الواجب علينا ذكرها حتى لا يبقى المجتمع يستظل بالخديعة ليحتمي بها من الحقائق . وكما نبين للناس الدسائس والمؤامرات التي حيكت ضد أهل البيت (ع) في سالف الأيام والمجتمع يطرب لسماعها ويتلذذ بها، ولا يوجد معترض بل العكس هو الصحيح فان الكثير يطالبون بكشف الحقائق والابتعاد عن المجاملات، فان الذي يحيك المؤامرات سابقا هو نفسه يحيك لمذهب أهل البيت وأتباعهم ، ومن السذاجة تصورنا انتهاء الحرب فبقاء أهل البيت ببقاء مذهبهم وأتباعهم، وبقاء إمامهم المهدي ( عليه السلام ) الذي ينتظرهم ليظهر على الأرض برمتها. فكما زرعوا معاوية ويزيد وغيرهم بالأمس ليكونوا ــ بحسب تصورهم ــ أنداداً للقادة الحقيقيين وهم الأئمة (ع) فهم اليوم سائرون على نفس النهج والطريق للقضاء على أتباع أهل البيت. كل ما في الأمر أن تاريخ أهل البيت أصبح بعيداً عنا نوعا ما، وهذه الأحداث من التاريخ إلا انها قريبة، وعادة الناس تصدق بالبعيد ولا تصدق بالقريب. فهناك أحداث عاشها الجيل الحالي لم يكن يعرف الحقيقة إلا بعد مدة من الزمن وهناك كم معتد به من الجيل نفسه لم يصدق بهذه الحقائق، لأنه مقتنع انه عاشها ولا يريد تصديق غير ما علمه. وخير مثال الحرب العراقية الإيرانية ، فكم رواية تتناقل في سبب وغاية الحرب؟ وهو جيل واحد إلا أن هناك أكثر من قناعة.
قد يقول البعض ممن يؤمن بصحة وجود التأثير البريطاني على حوزة النجف ــ وهذا ما سنحاول إثباته بالأدلة الدامغة ــ لا يمكن نشر الغسيل أمام الآخرين ، فيوجد من يقتفي الزلة على المذهب من نواصب وأعداء، فالأفضل السكوت عنها بداعي الحفاظ على هيبة المذهب. قلنا : نحن بحديثنا هذا نريد الحفاظ على المذهب، بالتخلص من كل ما يشين هذا المذهب الراقي ، فهناك مسيء في المذهب ، ولا بد من تفريق وعزل ليبقى المذهب محافظاً على نصاعته ونزاهته ، ومن يكون ذنباً للقوى الاستكبارية لا يمكن بأي حال من الأحوال ان ينسب لهذا المذهب الشريف. فلماذا نعطي الفرصة للآخرين (النواصب والأعداء) أن يجدوا ثغرة في المذهب يسقطون بها المذهب كله ، فلنفوت الفرصة عليهم ونحن نقوم بتقويم الاعوجاج الناتج عن طمع وجشع البعض، ولا نفعل كما تفعل النعامة، عندما تضع رأسها في التراب عندما تشعر بخطر يداهمها ، فهل دس الرأس بالتراب يزيل الخطر؟ .
 واجد نفسي مضطراً لأوضح بعض الملابسات التي قد لا يعرفها الكثير، وهي كيف استطاع البريطانيون ان يتوغلوا في مفاصل مهمة على ارض العراق ، وما هي الخطوات التي اتبعوها للوصول إلى القضاء على الوجود العثماني في العراق ومن ثم تفردوا بالسيطرة.  
إن بريطانيا تعد من اعرق الدول الأوربية ولها تاريخ طويل في مجال استعمار البلدان والهيمنة على مقدرات الشعوب، مما أتاح لها خبرة جيدة في التعامل مع الشعوب التي كانت تسيطر عليها، وهي مركز للمعلومات المتعلقة بهذه البلدان. وقد أتقنت وظيفتها إلى درجة كبيرة،لاعتمادها الأسس والأساليب المتطورة.
من أولى اهتماماتها عند احتلال بلد ما ، دراسة واقعه بشكل دقيق، لتعلم مواقع القوة والضعف، لتسهل عليها عملية السيطرة. وقع الاختيار على العراق لإخراجه من أيدي العثمانيين ليكون تابعاً للملكة العظمى، وهذا يتطلب المعرفة الدقيقة بتفاصيله، وما هي عوامل القوة والضعف، وماهية النسيج الاجتماعي، ومن هو المؤثر في المجتمع.. إلى غير ذلك من الأمور الواجب معرفتها وتشخيصها بشكل دقيق.
لا يخفى على الجميع ان أغلبية سكان العراق هم من الشيعة الامامية الاثني عشرية ، وهم يشغلون وسط وجنوب العراق، وهم من العشائر العربية الأصيلة. والعراق بطبعه متدين وملتزم بشريعة السماء، حتى الذي لا يؤمن بالله فإنه بالشكل العام لا يخرج عن الإطار الذي يميز الشعب العراقي عن غيره. وبما ان صفة التدين هي الصفة الغالبة على الشعب العراقي اذا يوجد من يسيطر عليه وله القدرة على التحكم بمساراته عموما، وهي المرجعية الدينية، هذا الموقع المهم والحساس في ان واحد، هو المتحكم والمهيمن على حركة المجتمع، لانهم يراجعونهم في صغيرتهم وكبيرتهم، وهو ما يعتقده الشيعة الامامية. اذا لا بد من التحرك على هذا الموقع وعدم تركه لمن لا يتوقعون حركته وتوجهاته، فبالإمكان في لحظة ان تقلب الموازين في كل البلد تبعاً لفتوى يصدرها المرجع. وهذا ما لا يريدون وقوعه بأي شكل من الأشكال . فالهيمنة بقوة السلاح مأخوذة بنظر الاعتبار عند المستعمر، الا انهم مع ذلك سيخسرون خسائر كثير، وهم يبحثون عن ربح أوفر بأقل الخسائر.
بدأت بريطانيا بالعمل الدؤوب للسيطرة على مجريات الأمور في العراق والذي كان تحت الاحتلال العثماني، وكانت البداية رعاية اقتصادها في هذا البلد، وإدارة شؤون رعاياها ، ودخول شركة الهند الشرقية. ولا يخفى على الجميع ان الهند مستعمرة لبريطانيا، وكانت تسمى جوهرة التاج البريطاني، لما لها من اثر على الاقتصاد البريطاني. ولم يكن عمل هذه الشركة يقتصر على النشاط الاقتصادي وحسب، بل في كثير من الأحيان كانت سفنها تساهم في دعم الحملات التي تشنها القوات العثمانية على القبائل العربية، كما حصل مع قبيلة كعب في البصرة، فقد شاركت سفنها بطلب من الأتراك لإخماد الثورة التي وقعت في البصرة. كما ان المسؤولين في فرع الشركة في البصرة كان لهم دور رئيس في التدخل ورسم كثير من السياسات العثمانية، وحل النزاعات بين الحكومة المحلية والعشائر العربية.
ثم تطورت الأمور أكثر من ذي قبل (ففي اغسطس 1764، استطاع مستر جرانفيل السفير البريطاني في القسطنطينية الحصول على (براءة قنصلية) او أمر يسبغ على وكيل شركة الهند الشرقية في البصرة صفة قنصل بريطاني هناك وقدمت هذه البراءة الى مستر رنش ومعها توصية من الباب العالي بمعاملته معاملة السفير البريطاني نفسه، وكانت الوظيفة التي يشغلها مستر رنش رسميا هي وكيل البصرة. ولا شك في ان مستر جرانفيل قد واجه صعوبات كثيرة لدى الحكومة التركية في سبيل الحصول على تلك البراءة التي كان يقدر قيمتها تقديراً كبيراً ، وفرح مستر جرانفيل بانتصاره هذا.. وكتب الى الوكيل يزف اليه الخبر( ان هذا أفضل الطرق واضمنها في هذا الجزء من العالم لحماية تجارة الشركة وملكيتها وحقوقها، انها تؤمن لوكلاء الشركة إلى الأبد، وباسلوب أكثر ثباتا من أي اسلوب آخر اقامة هادئة في البصرة كما انها تحرس نهائياً لعبة الباب العالي الخطرة في التغيير السنوي لنسبة الضرائب. وهذا ما طبقته فروع شركة الشرق الأدنى على مستويات العمل التجاري في بلدان تلك المنطقة لهذا نادرا ما لقي القناصل فيه أية مضايقات بشأن عمل الشركة ومؤسساتها) وان فوائد ومزايا هذه البراءة واضحة وسافرة.
وكانت النقطة الوحيدة التي يكتنفها الشك هي إمكان الحصول عليها، لا لعدم استعداد الباب العالي لمنحها فقط، بل لأنها أيضا تطبق لأول مرة بالنسبة لنا في البصرة. الأمر الذي جعل الباب العالي يعتبرها بدعة غريبة، ومع ذلك كله فقد نجحت في الحصول عليها واني أهنئكم مرة أخرى ولتجن الشركة طويلا ثمارها). دليل الخليج القسم التاريخي، لوريمر، ج4 ص 72 .
ومن الواضح ان البريطانيين كانوا يخططون بشكل دقيق ولامد بعيد. فالحصول على قنصل في البصرة لا يأت بمكاسب تجارية وحسب بل هي خطوة للتمثيل السياسي والهيمنة المستقبلية.
بعد الحصول على براءة القنصلية بدء البريطانيون يغيرون من سياستهم مع الأتراك، بدأوا بالتحجج بقضايا بسيطة ويتشكوا من ممثل الأتراك في البصرة، خصوصا ان للبريطانين ديوناً بذمة الأتراك جراء الحملة التركية الرابعة متحالفين مع شركة الهند الشرقية سنة 1766  (وقد تقرب سليمان أغا من الوكيل طالبا الصلح والتهادن، وذكر انه مستعد للالتزام بالشروط التي وضعها مستر مور الوكيل البريطاني. ومن هذه الشروط :
أولاً : ان يرسل المتسلم مبعوثا عنه للوكالة البريطانية معتذرا عن الاهانات التي حدثت لا سيما سجن بواب الوكالة، ويعد الا يعود لمثل ذلك المسلك في المستقبل.
ثانيا: ان يدفع المتسلم للوكيل أمراً بمبلغ 20 الف قرش سداداً لعوائد على بضائع انزلها التجار الاهليون من سفن بريطانية معينة، كما يوافق على ان تقوم شركة الهند الشرقية بالاحتفاظ بقيمة العوائد التركية عن البضائع التي أنزلت من سفنها في مقابل بعض الديون المستحقة للشركة على السلطات التركية.
ثالثا: ان تقسم العوائد على السفن المتوقع وصولها خلال الموسم على الوجه التالي: (ان تدفع نسبة 3% عن البضائع الانجليزية للشركة المعظمة). اما نسبة 7% التي تدفع عن كل البضائع في البلاد سواء قام ببيعها تجار بريطانيون أم اهليون فتقسم مناصفة بين المتسلم والشركة المعظمة بواقع 5 ،3% لكل منهما). المصدر نفسه ج4 ص 76
وقد قبل سليمان أغا بهذه الشروط. لاحظ كيف ان البريطانيين بدأوا يفرضوا سيطرتهم وان غاياتهم أوسع مما كان يظن الأتراك. بعد ذلك رفض البريطانيين إعانة الأتراك في حربهم ضد قبيلة المنتفق سنة 1769. وهذا يدلل على أنهم بدأوا يكسبون القبائل العربية في المنطقة وشيوخها.
والتتمة في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى ..