19 ديسمبر، 2024 3:55 ص

باعتباري عربيا وعراقيا و- ان شاء الله – (مسلما) فانا اشكك كثيرا بديمقراطية بريطانيا !، ولا اظن واحد بالمليون ان صوتي انا المهاجر اللاجيء اليها من استبداد الشرق يوما ما ،فتصدقت عليه بجنسيتها وحمايته من  قسوة اهله،  سيغير وجهة قرار سياسي غاية في الحساسية مثل خروجها من الاتحاد الاوربي، فيما لوتعادلت اصوات الرافضين والموافقين  وظل الاعتماد على صوتي وحده لحسم الموقف في الاستفتاء الذي جرى يوم الخميس الماضي.
في الديمقراطية هناك شكل ومضمون ، المشاركة الشعبية والاستفتاءات تتصل بالاول فقط اي بالشكل الذي يوحي للاخرين بان هذا القرار اتخذه الناس لا السياسيون . اذا قررت بريطانيا دخول حرب لن يمنعها المواطنون لو تظاهروا ضدها جميعهم ، واذا قررت نوع العلاقة مع الولايات المتحدة لن تثنيها اصوات الشعب البريطاني برمته ،   بمعنى اخر ان هناك حدودا لتدخل الناس في السياسات، ديمقراطية الغرب  تتيح للمواطنين (استبدال وجوه) السياسيين وليس (رسم سياسات) البلاد ،  ويمكنك ان تتذكر عزيزي البريطاني حماس ديفيد كاميرون ايام ترشحه للانتخابات البرلمانية وخطاباته  المشدِّدة على رفض الانضمام للاتحاد الاوربي وحديثه عن عظمة واستقلال بريطانيا  مغازلا دعاة  الانفصال لكسب اصواتهم في البلاد ، هو اليوم يخرج من منصبه لانه تبنى عكس ما كان يتبناه ويدعو اليه تماما! في بلد سياسته العليا اكبر من رئيس الوزراء واكبر من المؤسسات وابعد من تصورنا التحليلي الذي عادة ماياتي لاحقا للوقائع  لا متنبئا بها او مخططا لحدوثها.  
 في ديسمبر عام 1991 حين تداعى رؤساء 26 دولة اوربية للتوصل الى معاهدة – ماسترخت – المؤسسة للاتحاد الأوروبي   لم يستاذنوا شعوبهم بالذهاب للمباحثات، بل استفتوهم على نتائجها فيما بعد!.وهي خطوة شكلية لاحقة .الذي ليس شكليا جدا هو ما قالته ملكة بريطانيا في خطاب لها أمام البرلمان البريطاني قبل الاستفتاء بفترة طويلة : ( إن الحكومة ستجري مفاوضات حول إعادة النظر في علاقات المملكة المتحدة مع الاتحاد الأوروبي وستسعى إلى إصلاح الاتحاد الأوروبي لصالح جميع أعضائه.) لا يعتقد عاقل ان ملكة بريطانيا التي تلتزم الحياد في هكذا مواقف حسب الاعراف ، كانت تفكر بالخوف على اوربا من التفكك بقدر حرصها على ان تستعيد بلادها حريتها واستقلالها في عقد شراكات سياسية واقتصادية كبرى عظمى خاصة، وان تحظى ثانية بسِريّة وباطنية السياسات البريطانية الاقتصادية والسياسية في العالم .فبريطانيا التي ترى نفسها مديرة العالم وجدت نفسها عضوا في مجموعة ادخلت سكان اوربا الشرقية حفاة الاشتراكية الى ديارها لتشملهم بقوانين رعايتها الانسانية ، وتمهد لادخال حفاة المسلمين الهاربين من نزاعات الدين والسياسة لتوفر لهم الامان وتتحمل شتائمهم اياها وتهديدهم استقرارها، في وقت صنعت بريطانيا العالم على طريقتها لوحدها ، الدولة الوحيدة التي لايعرف احد كيف تفكر ومتى تقرر ولماذا تحارب ومن هم اعداؤها ، غامضة رصينة مثل احجار كنائسها، وادعة ذهنية كانها نص شعري اومقطوعة موسيقية ، ماضيها حاضر على طول زمانها . هذا المزاج الاسطوري لم يعد يتحمل شراكة طويلة الامد مع الاخرين . من هذا المنطلق غير الحسابي رمت بريطانيا طلاق الخُلْع على الاتحاد الاوروبي . بذريعة استفتاء شعبها ،الذي لم تستشره حين عقدت قرانها عليه.

أحدث المقالات

أحدث المقالات