23 ديسمبر، 2024 10:01 ص

بروميثيوس : خيال علمي جامح

بروميثيوس : خيال علمي جامح

البحث عن بداياتنا قد يقود لنهاياتنا !
فيلم خيال علمي جامح ، انتج في العام 2012 من اخراج ريدلي سكوت وكتابة جون سباهتس ودامون لندلوف  ، ومن بطولة كل من ناؤومي ربيس ، مايكل فاسبندر ، جاي بيرس ، ادريس البا ، لوجان مارشال غرين وشارليز ثيرون .
يصور الفيلم أحداثا مذهلة غير مسبوقة لخيال علمي جامح ، تحدث في نهاية القرن الحادي والعشرين ، حيث تركز القصة الشيقة على فريق رواد فضاء يمخرون عباب الفضاء في مركبة فضائية خارقة تسمى “بروميثيوس” ، تسافر  حسب خارطة اكتشفت في احقاب سحيقة وعثر عليها مرسومة في كهوف قديمة مهجورة ، وتشير الرسومات لحضارة بشرية بائدة ، وتقود لعالم بعيد وحضارة متقدمة ومندثرة ، ويسعى الرواد بمثابرة وعناد لتقصي أصل البشرية وفك رموز الاكتشاف ، ولكن بدلا من ذلك يكتشفون تهديدا خطيرا قد يقود لانقراض الجنس البشري برمته !
تم تطوير فكرة الفيلم في بدايات الألفية الثانية  كحلقة خاصة من مجموعة افلام الغرباء (آليان) ، حيث قام كل من ريدلي سكوت  وجيمس كاميرن (صاحب تحفة آفاتار) بتطوير الفكرة استنادا لفيلم الخيال العلمي الشهير الذي أخرجه سكوت نفسه في العام 1979 بعنوان ” الغرباء الفضائيين”، وتمت اعادة التفكير بالمشروع في العام 2009 ، واسندت كتابة القصة  والسيناريو للكاتبين السينمائيين جون سباهتس  ودامون لندلوف ، وتم تطوير القصة الأصلية  باسلوب فريد ، بحيث يكتشف الفيلم الجديد طريقته الخاصة المبتكرة وأفكاره غير المسبوقة كفيلم لافت يخلط الخيال العلمي برؤيا محتملة لأحداث المستقبل . دخل الفيلم مرحلة الانتاج في ابريل 2010 ، وتواكب ذلك مع تجهيز تصميمات ملائمة وخفايا تفصيلية  ، ومع تطوير تقنيات مستقبلية ومخلوقات افتراضية محتملة …ثم بدأ التصوير في آذار 2011 بميزانية تقديرية تتراوح ما بين 120-13- مليون دولار ، وتم اختيار مواقع معبرة في كل من بريطانيا ، أيسلندا ، اسبانيا وسكوتلاندا باستخدام نمط التصوير الثلاثي ( الثلاثي الأبعاد ) .
الحبكة :
في الماضي السحيق وصلت مركبة فضائية لكوكب الأرض ، ونزل منها كائنات فضائية  ذكية متطورة ، وقام أحد هذه الكائنات الغريبة بشرب سائل أسود أدى لتحلل جسمه وسقوطه في شلال مائي عارم ، وكان هذا المحلول يحتوي على بذور الحياة الأرضية  . وتحديدا في العام 2089 قام عالما الأجناس البشرية اليزابيت شو وشارلي هولوواي باكتشاف خريطة نجوم منحوتة في كهف قديم مجهول ، وتمثل اكتشافا أثريا مذهلا لبقايا حضارة قديمة ، حيث اقتنع الثري بيتر ويلاند (المؤسس العجوز لشركة ويلاند الفضائية ) بالفكرة  المغامرة ، وقام بتمويل المركبة العلمية الفضائية ” بروموثيوس” لمتابعة الخريطة والتوجه لسطح القمر – لي في 223- ، وشكل  فريق المركبة الفضائية بشكل انتقائي وبمصاحبة الروبوت الحاسوبي (أندرويد) المصمم على هيئة انسان والذي يسمى دافيد (أبدع الممثل الألماني مايكل فاسبندر باداء هذا الدور المميز ) ، وقد انحصرت مهمته بمراقبة أدق تفاصيل الرحلة ، بالاضافة لمرجعيته المعرفية الضخمة ومهارته الكامنة في التخاطب مع الفضائيين الغرباء …
وفي العام 2093 وصلت الرحلة لتخوم القمر المذكور ، وتم ايقاظ طاقم الرحلة بعد غيبوبة رقود بيولوجية (كما الدببة ) لمدة سنتين (فكرة البيات البيولوجي من أفكار الخيال العلمي الذي يعكف العلماء حاليا على دراستها وامكانية تجريبها على البشر في المستقبل ، كما انهم يستفيقون تدريجيا من سباتهم المؤقت ويسعون  لتدريب عضلاتهم بشكل طبيعي  لمنعها من الضمور ! )…  وقد انحصرت مهمة الفريق بايجاد ” الغرباء القدماء ” واللذين تمت تسميتهم بالمهندسين مجازا ، وطلبت مديرة الرحلة ميروديت فيكرز تفادي أي استفزاز و اتصال فيزيائي مباشر مع هذه الكائنات الفضائية الغامضة ، وبالعودة فورا للمركبة اذا ما تم اكتشافهم ! هبطت المركبة بالقرب من مجسم ضخم غريب ويبدو كمعبد فضائي  (في احدى اللقطات السينمائية المذهلة والبالغة الاتقان ) ، وقام كل من شو ، هولوواي  ودافيد بمعاينة هذا التصميم الفضائي الغريب ، بينما قامت فيكرز والكابتن جانيك بمراقبتهم عن بعد بواسطة كاميرات المركبة ، وذهلوا عندما اكتشفوا وجود “أنبولات” (جرار) زجاجية وتمثال احادي غامض ضخم لرأس بشري الملامح (وتبين لاحقا أن التمثال يحوي رأسا فضائيا محنطا ) ، يعتقد انه أحد المهندسين “الفضائيين” الافتراضيين ، كما وجدوا بجانبه أجساما اخرى غامضة متوقعين انقراض هذه المخلوقات ، وبادر دافيد بحمل احدى الأنبولات للمركبة ، بينما بدأت الأنبولات الاخرى بترشيح سائل أسود ! وطلب منهم العودة فورا للمركبة بسبب اقتراب عاصفة رملية هائلة ، بينما رفض عالم النبات ميلبورن والجيولوجي فليفيلد الالتزام رغبة بمتابعة اهتماماتهم العلمية الخاصة ( وهذه باعتقادي احدى هفوات الفيلم غير المنطقية ، فالمفروض هنا الالتزام والانضباط والتقيد التام بالتعليمات لكثرة المخاطر !)، وبداخل المركبة قامت العالمة شو والطبيبة فورد بتحليل رأس “المهندس الفضائي”  ، حيث تبين أن مكونات الحامض النووي تتطابق بشكل كبير مع التركيبة الجينية للجنس البشري …وخلال ذلك قام دافيد بفحص محتويات الأنبولة مكتشفا مكونات السائل الأسود ، وملوثا هولوواي بقصد (لا نفهم السبب ، وربما يعزى لخبثه الروبوتي ولغيرته غير المبررة) ، ولاحقا مارست شو الجنس مع هولوواي (المصاب) ، بعد ان انجذبت اليه بفعل “كيمياء” بشرية طاغية !
أما داخل “المجسم الفضائي الغامض” فقد هوجم كل من فليفيلد وميلبورن بواسطة مخلوقات “أخطبوطيةالشكل ” فتاكة وتشبه الأفاعي ، وفيما قتل ميلبورن فورا ، وأدى سائل لزج تسرب من احدى هذه المخلوقات الفتاكة لاذابة خوذة ” فيلفيلد ” معرضا اياه لتأثيرات السائل الأسود القاتل …خلال ذلك الوقت ، عاد الفريق لمعاينة ما حدث لهما ولمعاينة محتويات المجسم ليجدوا جثة ميلبورن ، ثم انتشر التلوث الفيروسي القاتل في جسم هولوواي بالكامل ، ويبدو وكان دودة صغيرة حلزونية تخرج من حدقة عينه الحمراء … وبينما يسعى مرعوبا للعودة للمركبة للنجاة بنفسه ، وعندما يتحقق من فشله يطلب من فيكرز حرقه بقاذف ناري للتخلص من تلوثه (ومضحيا بنفسه)  ! وخلال ذلك الوقت يكتشف دافيد قاعة سرية تحتوي على مهندس فضائي وخريطة نجوم مجسمة  تشير بوضوح لموقع كوكب الأرض…ونلاحظ مخلوقات شبحية غامضة تمر من خلالهم غير مكترثة بوجودهم ، وبعضهم يشبه منحوتات بوذا الضخمة يجلسون على كراسي حجرية وتشغل أزرارا وتصدح موسيقى اسطورية ، ويبدو وكان هذه المخلوقات تتخاطر فيما بينها !  ثم يكشف بفحص طبي سريع أن شو حامل في شهرها الثالث بالرغم من كونها عقيمة ، وتسعى باصرار وعناد لاستخدام جهاز جراحة روبوتي متطور ( لم يصنع منه الا اثنا عشر جهازا فقط )  للتخلص بجراحة قيصرية  من الكائن الفضائي ” الأخطبوطي الوحشي المظهر”  المزروع برحمها ، وتنجح بالتخلص من هذا المسخ الفضائي في احدى مشاهد الفيلم “الشيقة والمتقنة والفريدة” !

ونعود لنرى رجل الأعمال العجوز الثري ويلاند ( الذي كان مغيبا في حالة بيات جسمانية ) وقد استفاق من رقوده وغيبوبته البيولوجية ، ليبدي لشو رغبته بمقابلة “مندوب المهندسين”  والاستفسار منه حول كيفية تجنب الموت الوشيك الحتمي بفعل الشيخوخة والمرض ، ولكن أملهم يخيب عندما يواجههم “المهندس الفضائي” فيما بعد برد فعل عنيف غير متوقع ، وينجح بقتل بعضهم بشراسة قبل أن يتم قتله …ويستدرك الكابتن جانيك بأن القمر يستخدم من قبل المهندسين الفضائيين كقاعدة عسكرية جاهزة ومزودة بأسلحة بيولوجية فتاكة …عندئذ يهرول الجميع للعودة للمنشأة الفضائية الغريبة والمصممة على شكل حرف “يو” ، حيث يحاول الروبوت دافيد التحدث للمهندس الفضائي بلغته الخاصة الغريبة ، ولكن هذا الأخير يتفاعل غاضبا وبشراسة غير متوقعة ، قاتلا ويلاند وفورد وقاطعا رأس الروبوت البشري ” دافيد” ! تهرب شو حينئذ ناجية بنفسها من مركبة الغرباء التي يبادر المهندس بتشغيلها متوجها لتدمير كوكب الأرض …حيث يكشف دافيد ( الذي بقي رأسه حيا ) أن هذه المركبة ستنطلق بسرعة خارقة باتجاه كوكب لابادة سكانه بالسموم الفتاكة ! وتحاول مديرة الرحلة فيكرز اقناع جانيك بالعودة سريعا للأرض ، ولكنه يقتنع بنداء شو العاجل بأهمية ايقاف وتدمير مركبة الفضائيين القاتلة بكل السبل، ويقوم جانيك مع مرافقيه بعمل بطولي انتحاري ويصدم مركبة “برموثيوس” بمركبة الفضائيين محدثا تدميرا هائلا فوق القمر قبل أن تهرب فيكرز محاولة النجاة ، فيما تنهار مركبة الفضائيين الضخمة محترقة بفعل الاصطدام ، قاتلة فيكرز ، بينما تنجح شو  بالنجاة في اللحظة الأخيرة ، وكما في معظم أفلام المطاردات الشيقة ، ينجح  “المهندس الفضائي” بالنجاة من الاصطدام المروع ويدخل لكبسولة النجاة مهاجما شو حيث تتمكن بمعجزة من قتله ! في المشهد الأخير المعبر نرى شو وقد تمالكت ذاتها ، وتتمكن من استرجاع بقايا “الروبوت دافيد” من المركبة المدمرة وتركب رأسه (في لقطة محيرة تجمع الدراما الوجودية بالطرافة والاثارة والغرابة) ، ويقومان بتشغيل المركبة الفضائية الاحتياطية  ليس للذهاب للأرض كما هو متوقع ، وانما بغرض الذهاب لموطن “المهندسين الفضائيين” الأصلي (الذي يعرف دافيد موقعه) لفهم مغزى خلقهم للانسان ومن ثم سعيهم لابادته ، وربما قصد سكوت بهذه المشاهد الأخيرة المؤثرة  أن يترك المجال لفيلم جديد “خيال علمي” مستقبلي لسبر أغوار “المهندسين الفضائيين” وخفايا حضارتهم ومغزى “خلقهم للانسان ”  !
اختيار الشخصيات :

 يتميز ريدلي سكوت كمخرج فذ بطريقة اختياره لشخصيات افلامه (الملائمة تماما للأدوار) :
• ناعومي ريبيس في دور اليزابيت شو : عالمة أجناس بشرية بالغة الذكاء وسرعة البديهة ، مؤمنة  ولا تتخلى عن قلادة “الصليب” حول عنقها ، كما أنها عنيدة ومثابرة وفضولية ، تتحول تدريجيا الى مقاتلة شرسة لتنجو بنفسها وتحقق رسالة الرحلة ، تتذكربحنين والدها الراحل وطيبته وايمانه بالأديان واحترامه لكافة المعتقدات .
• مايكيل فاسبندر في دور دافيد : مختلف عن البشر العاديين، انه رجل المهمات الخطيرة والصيانة ويعمل ككبير الخدم الجاهز دوما ، ولكنه يخفي بمهارة الأنانية والغيرة والحسد ، بالرغم من كونها خصائص بشرية ، يحب ان يتميز نظرا لذكائه ، ويتعامل مع الآخرين بفوقية ومشاكسة ، يزودنا برؤيا غير انسانية للاحداث كروبوت بشري ! أبدع بتقديم دور فريد، مشتق لحد ما من سلوكيات فيلم ” راكض الشفرة ” (بليد رانر) لنفس المخرج ، واستوحى أفكارا بطريقة المشي وتقنين الحركات بشكل مدروس ،  كما اقتبس بعض سلوكيات ديرك بوغارد اللافتة في الفيلم الشهير ” الخادم ” ، وسرح شعره الأشقر بنفس نمط تسريحة بيتر اوتول كما ظهر في فيلم ” لورنس العرب” !
• غاي بيرس في دور البليونير المسن  ويلاند : المدير التنفيذي المؤسس لشركة ويلاند الفضائية ، يملك شخصية انانية ونرجسية ويعاني من عقد العظمة ، بالرغم من ظهوره المحدود الا ان حضوره كان لافتا بفعل طريقة الاداء المميزة والمكياج المكثف الذي حوله لشخص عجوز طاعن بالسن ، اضطر للتجول بانحاء لندن القديمة لتقليد الحركات والسلوكيات للعجائز الأثرياء ، كما حاول تقمص كاريزما مارلون براندو بطريقة الاداء الفوقية.
• ادريس البا في دور الكابتن جانيك : انه قائد المركبة الفضائية ، أدى الدور بشغف بالغ ، شاعرا بمسؤوليته لقيادة المركبة بآمان وحماية الرواد ، أدى الدور بواقعية –برغماتية ، وبدا جاهزا دوما للاستفسار عن مغزى ما يحدث ، ولتفديم التضحيات البطولية .
• لوجان مارشال جرين بدور عالم الآثار شارلي هولواي : عنيد ومثابر وشغوف ، متطرف بطريقة تفكيره ، يناقض شو من حيث كونه شكاك وملحد ، ولكنه مخلص ومستعد للتضحية بنفسه لانجاح مهمته .
• شارليز ثيرون بدور ميرديت فيكرز : تعمل كموظفة لامعة في شركة ويلاند ، ارسلت لمراقبة التنفيذ الصارم لبرنامج الرحلة ، تصف ببلاغة نمط تقمصها للشخصية  : بانها كبذلة تدخل كامل جسدها ببطء من خلال احداث الفيلم ! كما تضيف بأنها شخصية شريرة نوعا ما وتعمل حسب أجندة خاصة ، وتضيف بانها أي فيكرز شخصية برجماتية وترغب بشدة بالتحكم بمجريات الامور داخل المركبة وخارجها . أراد سكوت بذكاء أن تتخلل هذه الشخصية للأحداث وتراقب بصرامة الشخصيات الاخرى ، وان تكون حازمة وشكاكة ولئيمة وقاسية ، أحد مشاهد الفيلم الأخيرة تطلب أن تركض ثيرون فوق الرمال وهي تمتطي حذاء وزنه 14 كغم  للنجاة بنفسها ! 
• ريف سبول بدور ميلبورن عالم النبات : قال هذا الممثل معلقا بأن فيلم الغرباء الشهير ” آليان ” هو واحد من أحسن الأفلام التي انجزت في الخيال العلمي ، ومن الغريب ان تكون مرتديا لبدلة فضائية ثقيلة ويأتي سكوت للتحدث معك ! لهذا تحديدا قررت أن اصبح ممثلا لأكون في الفضاء مرتديا بدلة فضائية !
• سين هاريس بدور فيلفيلد : يمثل دور الجيولوجي غير المستقر ، الحساس الذي يشعر بخطورة الامور ، ولكنه عنيد وصعب المراس ولا يحترم الأوامر ، كما ان تسريحة شعره الأحمر الدقيقة تحمل مؤشرا للعصبية والجدية ، ويصلح لأن يكون ضحية تصرفاته الارتجالية !
• شخصيات اخرى ثانوية ابدعت ايضا باداء الأدوار : كيت ديكي بدور الطبيبة فورد ، ايمون اليوت وبينديكيت وونغ كمساعدين مخلصين لربان السفينة ، وباتريك ويلسون كأب شغوف (راحل) لشو الصغيرة ، وقد استعرضت بحنين ذكريات لا تنسى معه اثناء مرور جنازة هندوسية وتعليقه الذي لا ينسى عندما أجابها كطفلة “بأن هذا الميت سيذهب لجنته حسب معتقده” !
وبعد لا تكفي مقالة واحدة لوصف هذا الفيلم العبقري ، بما يحويه من أفكار فريدة وجريئة ومن مشاهد بصرية آخاذة …
[email protected]