11 أبريل، 2024 8:08 م
Search
Close this search box.

برمودا الانبار وقدسية كربلاء

Facebook
Twitter
LinkedIn

اذا مانظرنا في الدستور العراقي الجديد فسنجده دستورا يرقى لمستوى دساتير الديمقراطيات العتيدة. نعم، لعل بعض بنوده تحتاج الى تعديل وهذا ماتضمنه نصه أيضا. لكن يخلط العراقيون بين بنود الدستور والسياسات الحكومية التي إما ان تكون مخالفة له أو منفذه بشكل سيء فيضنون خطئأ أو يصدقون ادعاء مسؤولي الحكومة بانهم يتبعون مانص عليه الدستور في وضع وتنفيذ سياساتهم الظالمة أو الفاشلة وهذا بهتان جلي . لذا صار من المألوف ان نرى العامة وهم يصبون جام غضبهم على الدستور والعملية السياسية برمتها. كثيرة هي المخالفات الدستورية التي ارتكبتها الحكومات المتعاقبة وموضوعنا لايركز على الخوض بكل هذه المخالفات، اذ لامجال لذلك في هذا المقال الذي يتحدث عن أمر آخر.
هناك فقرات وبنود عامة في الدستور العراقي الجديد رسمت الخطوط العامة وارجأت التفاصيل الى المشرعين العراقيين بعبارة ( ينظم ذلك بقانون)، لكن دوراتنا البرلمانية لم تنظم اي من تلك البنود بقوانين توضح تفاصيلها لانها، أي الدورات البرلمانية، وكما تعلمون انشغلت بصراعات المحاصصة وتقاسم الغنائم المسلوبة من قوت الشعب العراقي.
لاتخلو دساتير الديمقراطيات العالمية العتيدة من التأكيد على أو الالتزام بما أطلق عليها فلاسفة غربيون في القرون الوسطى “العدالة الطبيعية” (natural justice)التي انبثقت منها ” نظرية الحقوق الطبيعية” (natural rights) وأساس هذه الحقوق ثلاثة: حق الحياة، حق التملك، وحق التحرر. ومفردة ” الطبيعية” المقصود بها ” الفطرية” اي تولد مع الانسان، لذا نصت دساتير هذه الديمقراطيات على أن لايحق لاي جهة حكومية او منظمة سياسة او اجتماعية سلبها أو تعليق العمل بها لاي سبب كان أومنع أي مواطن من ممارسة اي منها في اي زمان وأي مكان. وعلى هذا الاساس لايمكن ان نُعَرِّف اية حكومة بانها ديقراطية مالم تصن هذه الحقوق التي تمثل الحد الادنى للحقوق والحريات التي يفترض ان يتمتع بها أي مواطن في اي دولة ذات نظام سياسي ديمقراطي. حق التحرر (the right to liberty) يعني حق المواطن في التحرر من العادات والتقاليد الاجتماعية والفكرية ،بما في ذلك حق تغيير الديانة أو عدم الاعتقاد باي ديانة امتثالا للمواثيق الدولية لحقوق الانسان وبما لايتعارض مع المبادئ الدستورية ذات العلاقة.
تباينت الديمقراطيات في تعريفها للـ ” الاحتشام العام” (public decency)يقابله في مجتمعاتنا الاسلامية “تحديد العورة.” وتعتبر الولايات المتحدة الامريكية من الدول المحافظة في هذا المجال إذاما قورنت بهولندا أو دول أوربية أخرى. وحتى في الولايات المتحدة الواحدة تباينت كذلك مستويات المحافظة والتحرر بين ولاية واخرى، لكنها جميعا تلتزم بدستور قومي يحمي الحقوق والحريات العامة.
نحن كعراقيين نفخر باننا من علم العالم الكتابة ولكن تمنعنا العزة من الاعتراف باننا الآن أميون، واعني بهذا اننا لاندون الاحداث التي نمر بها ولا نكتب تفاصيل تاريخنا ولا نشرع القوانين ولانعرف الامور ولانتكاتب على اتفاقاتنا اليومية التي تخص العمل او التي تخص اي جانب من جوانب الحياة الاخرى، لذلك نحن في خلاف دائم فيما بيننا على اتفه واحقر الأمور. لم نجلس ونتفق على كل التفاصيل الدقيقة وندونها في مخطوطات نحتكم اليها عند الاختلاف مثلما تفعل الامم الاخرى التي منا تعلمت الكتابة والتدوين. ان من اهم اسباب خلافاتنا التي تتكلل عادة بنزاعات مسلحة هو ، حسب رأيي، الاختلاف بالمفاهيم ونقص أو تناقض او ضبابية التشريعات والمفاهيم.
بعد ازاحة نظام البعث الدكتاتوري، وجدنا أنفسنا نسبح في فوضى فكرية وأمنية وسياسية واجتماعية. الفوضى الفكرية التي هي موضوع مقالنا تأتت ، على مااعتقد، من تعدد مصادر المعرفة عندنا وتاليا تعدد مصادر التشريع وتناقض التشريعات كما اسلفنا رغم قلتها. يدعو الاسلاميون بشقيهم الشيعي والسني الى اعتبار الاسلام المصدر الرئيسي للتشريع رغم انتقائيتهم لما يخدم مصالحهم الدنيوية أو لي تفاسير نصوص دينية كي تبارك سعيهم لاحتكار السلطة والمال والجاه، وعلى النقيض من ذلك يبشر العلمانيون بالنظريات السياسية الوضعية وابعاد الدين عن السياسة، ومن المشهد الخلفي، تضغط بقوة مفاهيم القبيلة والاعراف العشائرية فارضة وجودها على المعسكرين.
مادعاني لكتابة هذا المقال هو حدثين حدثا في العراق قبل أيام: منع ارتداء ” البرمودا” او السروال القصير في محافظة الانبار واحتجاج سياسيين ورجال دين يمارسون السياسة عراقيين على ” فسوق” افتتاح حفل بطولة غرب اسيا لمنتخبات كرة القدم في كربلاء وجرح قدسية المدينة. وفي كلتا الحدثين، انتصرت مفاهيم واعراف القبيلة على المفاهيم الاسلامية والنظريات المدنية الوضعية لكن الاسلامويون كما هم دائما ماهرون بإلباس سنن القبائل لباسا دينيا وتسويقها لاتباعهم على انها تشريعات اسلامية.
لم يخالف ابناء الانبار ولا أبناء كربلاء مفهوم الاحتشام في الاسلام والقوانين المدنية بل لعلهم خالفوا الاعراف القبلية، كيف؟ عورة الرجل في الاسلام هي المنطقة المحصورة بين السرة والركبة وسروال الـ “برمودا” يغطي الركبة، والرياضيون يجوبون الاماكن العامة بسراويلهم القصيرة ويتبارون في ملاعب تكتض بالرجال والنساء في الدول الاسلامية ولم نسمع اعتراض على هذا حتى من اكثر الدول الاسلامية تشددا في العالم (ايران والسعودية) لذا فمنع شرطة الانبار الشباب من ارتداء السروال القصير يعد إمتثالا إما للاعراف القبلية او للافكار الارهابية (ولا أقول الاسلامية المتطرفة) وللاسف فلا يتوفر هذه الايام لاغلب أهل الانبار مصدر للمعرفة غيرهما.
أما في كربلاء، فالذي حدث لايعدو كونه حركات جسدية نفذتها فتيات اقرب الى النشاطات الرياضية منها الى الرقص وعزف على الة موسيقية والجميع يرتدين جلابيب تغطيهن من الرقبة حتى الكاحل. أما الموسيقى، فلايعتقد كثير من فقهاء المسلمين انها محرمة وحججهم في ذلك كثيرة منها ان الطبول قرعت في زواج فاطمة الزهراء من علي بن ابي طالب (عليهما السلام) اضافة الى ان العزف كان مصاحبا للنشيد الوطني وليس لـ”اثارة الغرائز”. واذا كان سبب الضجة عدم ارتداء الحجاب، كذلك يرى الدكتور محمد شحرور وغيره كثر ان ارتداءه تقليد اجتماعي ولا يمت بصلة الى الشريعة الاسلامية، لكن أراد البعض شده الى الاسلام من خلال تفاسير مغلوطة لآيات قرآنية.
إذا لم يُعَرِّف المشرعون العراقيون معنى الاحتشام العام بشكل واضح وجلي، فلا يحق لاي جهة سياسية كانت أم اجتماعية أم دينية ان تهاجم المواطنين أو تقاضيهم على سلوك لايحرمه اي قانون ولايمنعه اي تشريع عراقي (لحد الآن على الاقل) فكفاكم سلوك سمت ذي ورع ودين وفعلكم فعل كل متبع هواه ( من شعر الحلاج رحمه الله). الانتخابات لازالت بعيدة والمزايدة على الولي الفقيه في كبح الحريات قد لاتزيدكم تقربا منه فهو منشغل بما هو اعظم هذه الايام ولديه من العملاء في العراق مايكفي. واذا نجحتم بخداع الشعب لبعض الوقت فسوف لن تنجحوا بخداعه الى الأبد، وحذاري لكم من الاستمرار باللعب بالنار فلقد طفح الكيل وبلغ السيل الزبى. وفروا على انفسكم السحل في الشوارع وعلينا دوام الظلم والاضطهاد وانسحبوا من المشهد السياسي بهدوء كما انسحب منه قبلكم بهاء الاعرجي وحسين الشهرستاني وابراهيم الجعفري وغيرهم فنسى الناس فسادهم وفشلهم ولعلها ستغفر لكم فسادكم كذلك ان فعلتم ذلك وستحتفظون لانفسكم وذويكم بالمليارات التي سرقتم من افواه الجياع.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب