بغداد، هذه المدينة التي لا تعرف الهدوء، حتى في منتصف ليلها، إذ بين ليلة وأخرى نسمع رشقات من رصاصات تمزق صمتها المؤقت، ولا نعرف هل هي تشييع، أم “عركة سكارى”، أو أنه “علاء القچاق” يجرب سلاح جديد قبل إعطاءه لأحد الزبائن، الذي ينوي أن “يدگ” به بيت أبو فلان، لأنهم لم يرجعوا له زوجته “الزعلانة”.
وقد تكون هنالك مباراة كرة قدم، تجري في ملعب يبعد عن العراق مسافة (5،529 كيلو متر)، فتتعالى الأصوات من عند ابن جيراننا عبوسي وجماعته: “گوووول، و كذا كذا من الخلفوك، ولك إلعب عدل أبو رجل العوجة!”، وطبعاً بيوتنا متلاصقة وصغيرة، وصراخ المراهقين هؤلاء يرن في غرفتي.
يمضي الليل، ويبدأُ نهار يوم جديد في بغداد، ويصحون الناس بعد ليلة من متابعة الأخبار، ومتابعة النقاشات التلفزيونية السياسية الحامية، وبعضهم كـ “أبو عماد” لابد له أن يتصفح الفيسبوك، فيملأ رأسه بما شاهده وما قرأه، من حقيقة وإشاعة، فيحس بأنه برلماني ويجب أن يجلس في مقعده البرلماني ويعلق على الأحداث، فينام وهو يتوعد بأنه سيرعد ويبرق في البرلمان.
كنت جالس في هذا (الباص) برلمان الشعب المصغر، مسلوب الصلاحية في تشريع أي قانون، حينما أطلّ هذا النائب من نافذة السائق، سائلاً إياه: سايقنا وين توصل؟ – باب المعظم – أجابه السائق. صعد وهو ينظر في وجوه الركاب، لعله يجد شاباً يفرغ ما بحقيبته البرلمانية عنده، فجلس بجانبي.
دفع الأجرة 1000 دينار، واشعل سيجارة، وبدأ ينفث في كل مكان، وبعضه في وجهي. سألني أبو عماد، بعدما عرّف عن نفسه بدون أن أطلب منه ذلك: شنو هالفايل اللي بيدك؟ لم أكن أريد أن أفتح نقاش مع أحد وخصوصاً في الباص، لأني أعرف عواقبها، لكني من باب اللياقة أجبته “رايح على تعيين”، فضحك ضحكة صفراء معلناً بدء الجلسة.
بدأ بيان الافتتاح بسب الجميع من رأس الحكومة، مروراً بالوزراء، والنواب، والشعب الذي اتهمه بالتخاذل، لأنه ساكت على الحكومة، وقوى الامن الذين انقذونا لدقائق عند مرورنا بإحدى السيطرات من ثرثرته المزعجة، وانتهى من ملف العراق بانتقاد الحوزة، بقوله: لو كنت معمماً لأفتيت بإعدام الجميع!! فتمتمتُ مع نفسي منزعجاً: شيخلصها اليوم ويه هالفال التعبان ياربي؟.
نطق آخر، فأحسست أن المداولة ابتدات، وبدأ يناقش التوغل التركي في الأراضي العراقية وأعلن قراره برفض هذا التدخل والوقوف بوجهه بحزم، وفي ملف ترسيم الحدود مع الكويت قال آحد الركاب “عفواً النواب”: ادعوا الجميع إلى اللجوء للحوار والركون الى لغة العقل والمنطق، وتفعيل الاتفاقيات والمعاهدات بهذا الصدد!
في هذه الأثناء بدأ أحدهم يناقش موضوع داعش وما بعد تحرير الموصل، وملف سوريا، وديون مصر وموقفه من السيسي، وانتهى بموضوع ترامب وتهديداته لايران، ودعى الحكومة إلى التعامل مع هذه الملفات بجدية.
أبو عماد نظر إلى رجل متقدم بالسن، لم ينطق بكلمة على طول الطريق، فبادره بسؤال يبدو أنه أيقظه، فقال له: حجي البرلمان منعقد وانت ساكت ليش؟ فقال: والله ما أدري!
خلال هذه الزوبعة من الفوضى والنقاش الغير منتج، كنت أراقب امرأة تجلس بالمقعد الذي يلي مقعد السائق، وقسمات وجهها تشي بشرها وعدائيتها، أرى شفاهها تتمتم بكلمات لكن دون صوت، فنطقت فجأة بصوتٍ عالي، بعد أن رن هاتفها: “7×7 غير هيچ ما أقبل”، وأغلقته، وعادت للتتمتمة.
وقبل أن يصل الباص إلى وجهته، عاد والتفت إليّ النائب أبو عماد وقال: اوليدي ما دام الدنيا صبح، ارجع كمل نومتك، لان شغلتك مادام عند هاي الحكومة چذب تتعين!
حينها إلتفتت إلى السائق وقلت له: ألست أنت رئيس الجلسة؟ قال: نعم.. فقلت: فلماذا لا تصوتون على تعييني؟ أجابني وهو يلتفت يميناً الى مقاعد “السدر” الفارغة قائلاً: “لعدم اكتمال النصاب”.