23 ديسمبر، 2024 1:47 ص

برج “مكاني” وبرج “شعري” اسمه جواد الحطاب
وحفل لتوقيع ديوان “بدرية نعمة”.
الوقت مساء والمكان مؤسسة “برج بابل” التي تغازل أشجار ابي نؤاس، وتستنشق عبق دجلة، في بغداد التي تحمل كل إخبار الموت والدم والكوارث .. وفي هذا الجو اللاهب تنادى جمهور كبير من عشاق الشاعر جواد الحطاب للاحتفال معه بتوقيع كتابه الشعري الجديد (جواد الحطاب، و.. بدرية نعمة – قبرها ام ربيئة وادي السلام).
كان ثمّة شعور من الترقّب يتنامى في دواخلنا، سيما وان سنوات طوالا تفصلنا عن أخر قراءة شعرية للحطاب في ملتقى رواق المعرفة.
ابتداء حفل التوقيع بكلمة تقديمية حميمية للشاعر الإعلامي علي وجيه، وكان دقيق الوصف حين وصف الدخول الى لمنطقة الحطّاب الشعرية “نقدا أو تقديما” بالمخاطرة التي لابد من قراءة نتائجها بدقة، ومؤكدا ان الراحلة (بدرية نعمة) حاضرة في كل دواوين الحطاب على مرّ تاريخه الشعري، فنراها شابة في ديوان “سلاما أيها الفقراء”، ثمّ تكبر في ديوان “يوم لإيواء الوقت” وفي ديوان “شتاء عاطل”، وكذلك في كتابه النثري “يوميات فندق ابن الهيثم” , وفي “إكليل موسيقى على جثة بيانو”، وكذلك في “بروفايل للريح” وهو الديوان الذي سبق ديوانه الأخير.
ولم ينس الشاعر علي وجيه، إن يذكّر الحضور بالحوار الذي جرى بين الشاعر جواد الحطاب وبين الناقد حسين سرمك حسن، حين سأله الأخير: الى اي جيل ينتمي الحطاب ؟ فيجيبه: (الشاعر الفاشل وحده من يبحث عن جيل يحميه من النسيان) ويستطرد وجيه: عندما نقرا للحطاب نرى حجرا غريبا بين صخور الشعر العراقي، ونلمس نسيجا مختلفا لا يشبه الا: جواد الحطاب.
.
ومع المرحلة الشاقة للحرف والحب، تدفّق صوت الحطاب عذبا وآسرا ومختنقا بعبراته ( اليوم هو امتداد للجرح العراقي .. والدم العراقي الذي لم ينشف بعد .. لذا اخترت اليوم ان نقرا قصائد رثائيات للعراق , العراق الذي انا على يقين من انه سينهض , مثلما كان ينهض عبر أزمنة طويلة، يرافقه فيها الجرح مثلما ترافقه الحياة , ديواني الأخير هو مرثية لأم، ويحضرني الآن ما كتبه الناقد المبدع د. حمد الدوخي: ان هذه القصيدة، قصيدة كونية وبإمكان اي شاعر إن يرفع اسم “بدرية نعمة” ويضع اسم أمه بدلا عنها..)
الحطاب وفي كلمة مرتجلة، أكّد (ثمة خيط إلهي بين الإنسان العراقي، وأمه، متجذر في رثائيات سومر، بدءا من نحيب العراقيين على تموز، وهو يوغل في ارض الغياب وعودته ثانية بدعاء الكثير من العراقيين الممتدين عبر التاريخ).
ويلفت الحطاب الحضور الى ان (الديوان لم يكن نتاجه وحده، بل اشتركت معه في هذه القصيدة بدرية نعمة).
ثمّ يبدأ افتتاح جلسته الاحتفائية، بقراءات شجية، وصوت عذب أضافت آلة العود إليه الكثير من الشجن عبر أنامل الموسيقي المبدع مصطفى زاير.
( انا ألان بدون بدرية نعمة ؟!! –للمرة الأولى يحدث هذا – ان تتركني بدرية نعمة – وتذهب بزيارة مجهولة ) (حين كنت ارتكبت الحماقات – وأباشر أهوائي باجتياز خطوط الرب الحمراء _أخرج للوعيد لساني _ههه ..معي بدرية نعمه – أعرف أن الله صديق شيلتها السوداء كأفراح القديسين ) ( صوتك المجعد من سيكويه ياام – من سيرسل هدهداتك إلى المصبغة ) ( يقول الملقن : اسمعي يا بدرية بت نعمة – وافهمي انك ميتة يا بدرية بت نعمة – فإذا سألك الملكان يا بدرية بت نعمة – فقولي – لم ينتبه الملقب إلى سله مهملات ملونة – اوصى الله ليرمي الملكان بها ذنوبك اللامرئيات – وما إدراك , وأنت نائمة – تتونس الملائكة –بحياكة ذنوبك اللامرئية حسنات ) (وفي مسند الحطاب – أن الرب وجدك نامية على ضفاف سومر – فأستخرجك من لحاء الطين – ومن منكَهات القرنفل والقصب).
.
بعد هذه القراءة المثخنة بالبوح المجرّح، افتتح “علي وجيه” باب المداخلات مبتدئا بالشاعر والناقد د علي حسون لعيبي في ورقته التي أطلق عليها الحتمية الاجتماعية..بين بدرية نعمة وجواد الحطاب..مع حفظ الألقاب..
(تنتابني لحظات تأمل لبعض معاني ومسميات الحياة..ومنها الحب، ولا اقصد هنا فقط حب المرأة والرجل بل كمفردة عامة..واطرح أسئلة حوارية مع نفسي وكمّ واسع من التأويلات..حتى أصل لمجموعة استنتاجات أهمها..أن الحب مرتبط بقيم سماوية منحها الرب حتى تتطهر الأرض من ادرأنها الملوثة بسلوكيات مفروضة وقيم سلبية تفرزها الحاجات الآنية للإنسان..فمن يحب لا يكذب ولا يتملق ولا يصطنع المشاعر والأحاسيس..وخاصة عندما يكون الحب عميقا مثل حب الأم..
..دائما هي الرمز الطيب الجميل..ويبدو هي إرادة السماء..ولهذا ليس غريبا أن تنشأ أو تتبلور قصة حب امومية بين جواد الحطاب الإنسان والشاعر ,وامه بدرية نعمه رحمها الله) , وليختم مداخلته مستشهدا بنص للحطاب (الفرح مدين لأمي – فحين بكت – أجتمع حزن العالم في عينيها).
المداخلة الثانية كانت مع الناقد والشاعر د حمد الدوخي، الذي قال (ما هو معروف ان شعر الرثاء خاضع لنظام، أعني يجب ان يكون واضحا وصادقا ملما بأوصاف المرثي، وهذا كله ضد الشعر، إذ هنا سيطوّق الشاعر من أين له ان يأتي بآية تكلم الناس‼
في هذا الديوان الذي نحن ألان بصدده، ولأنّه الحطاب، ولأنه شاعر، ولأنها بدرية نعمة، أخذنا سريعا الى بدريته بلغة عَليا، لغة تستخف بالموازين وتستخف بأنظمة التجاوز واقعيا، سرياليا، ورمزيا، إن جواد الحطاب يمتلك عبث طفل بدقة ووعي وبقصد، ويعلم انه لن يأتي بنتيجة تقنع مواساته).
بعدها كانت المداخلة للشاعر قاسم محمد مجيد الذي قال ( في ديوان الحطاب الذي عنونه بإسم من يجب بدرية نعمة , كأنه طفل لازالت أمه تداعب شعره وهو يضع رأسه في حضنها) متسائلا (هل الديوان مرثية لام جواد الحطاب آم لنا نحن الذين نبحث في السحب البيضاء والأشجار دائمة الخضرة عن أمهاتنا؟! في الديوان يرى الحطاب أمه عائدة من القبر ولان ذاكرته تثقله، فهو يراها كما في أعماقه كفيض سحري في داخله، وكأنّ حارس الذاكرة دفعه بكعب بندقيته وأغلق الباب، فقد اصطفت في الديوان جيوش المفردات ليلوح لنا الشاعر الحطاب -وهو دائم المعرفة- الى اين يذهب بنا بنصوصه. ان ديوان بدرية نعمة تعبير عن حاجة القلب الإنساني الى الهرب من المتناهي لكنه، مع ذلك، يلقي مراسيه ويثق بالموت الذي يقودها إليه, لذا لا قوة في الأرض تستطيع ان تحطم ذاكرته ومحو اثر قبلات بدرية وطعمها الأمومي, وهاهو الحطاب منتظرا بدرية رحمها الله لكي تفتح جفنيها عسى ان يلمح صورته في عينيها لكنه يلمح اعتذارها فقط).
وفي مداخلة للسيناريست والكاتب حامد المالكي ( قال انه نادرا ما يبكيه الشعر ربما مشاهدة فلم او أغنية .. لكن الحطاب انتزع منه دموعا في رثائه هذا) معتبرا (الديوان – القصيدة – مشروعا لا يتوقف عند النشر فقط ، وإنما سيأخذ إبعادا درامية كلما مضى عليه الوقت . ولم تكن قصيدة الربيئة لأم جواد وحدها، وإنما لأمهاتنا جميعا).
.
مسك مداخلات الختام كانت للشاعر والناقد التشكيلي حسن عبد الحميد، الذي قال انه سيركز على القسم الثاني من الربيئة، القسم الذي اسماه الحطاب “نثار الذهب”.
حسن، قال (لو كان لدى العرب هكذا تنظير، لقلبوا الدنيا بتبنيه وايصاله لكل النقاد العرب) متعهّدا بانه (سأعمل في المستقبل على هذا سأكتب وأسلط الضوء عن تنظير الحطاب عما اسماه بنظام الفسائل او نثار الذهب، وحتى قبل ان يتناوله النقاد لأهميته البالغة شعريا).
الحطاب آثر ان يرافق عبد الحميد وهو يتحدث عن “نثار الذهب” بقراءة شيء من قصائد النثار، والتي راقت كثيرا للجمهور الذي امتلأت به حديقة “برج بابل”.
وكان الختام رائقا حين اصطف الحضور بجمالية وهدوء لاستلام نسخه من الديوان، مذيّلة بتوقيع الشاعر جواد الحطاب، وسط “فلاشات” وأضوية كاميرات الفضائيات التي حضرت بكثافة لتغطية هذا الحدث الثقافي وتوثيقه جماليا.
.
يمكنني القول، ان احتفائية “ربيئة وادي السلام” كانت ضمادا موضعيا لأرواحنا، لا سيما وأنها جاءت متناغمة مع الجرح النازف لبغداد، وفقدانات العراقيين للأمهات والآباء والأبناء، فبالشعر أيضا يمكننا ابتداع إشكال تحيي الأمل، وتعزّز المقاومة.