19 ديسمبر، 2024 12:01 ص

برامج للكلام المجرد ام للدور المجسد

برامج للكلام المجرد ام للدور المجسد

ثمة متغيرات برزت في الصحافة المسموعة والمشاهدة ، خلال الاعوام القليلة المنصرمة تجسدت بأعداد البرامج الحوارية أستكمالاً للشكل الديمقراطي الذي يسعى اليهِ النظام السياسي والاحزاب التي توالدت وانتشرت اميبياً في العراق ، لتسويق افكار ومعلومات ضمن الخطاب الذي تعمل عليهِ المؤسسة الاعلامية للتأثير في أتجاهات الرأي العام ومحاولة كسبهِ .
إذ تعددت القنوات والوسائل التي غدت تشكل سبباً وعاملاً ضمن عوامل رئيسة للإرباك والفوضى التي يعيشها البلد .
وبرامج الكلام التي نشاهدها يومياً إذ غرقت فيها شاشات التلفاز تنتهي من حيثُ بدأت القناة الاخرى ، فإن معظمها يعتمد على الثقافة الاستهلاكية المفرغة من المعلومات والاقناع بل الكلام حد الثرثرة والصراخ والسباب والسفسطة والتمسك بالرآي وعدم استيعاب الرآي الاخر ، متناسين إنَّ للكلمةِ وقعٌ عميق وتأثير بالغ على العقول والإفكار والاتجاهات والسلوك ، وإنَّها كانت ولما تزل الرمز الباذخ لحضارات وابداع الشعوب .فالكلمة كلما كانت اهدافها ومعانيها ومقاصدها سامية تكون مهمازاً للتغيير والبناء . فهي جوهر الكتب المقدسة لتهذيب الانسان ، والنظريات العلمية لرقي المجتمعات ، ورسالة الوسائل الاعلامية للانماء المعرفي .
لذلك فإن ثمة كلام كثير يثير الغثيان في احايين عديدة بعيداً عن الشعور بالمسؤولية الاخلاقية يعمل على ارباك المواطن الباحث عن ذاتهِ اصلاً في ظلِ اوضاع اختلطت فيها الاوراق والافكار والاتجاهات ضمن اطار المسموحات الممنوعات التي صنعتها الاحزاب القابضة على السلطة . وإضحت هذهِ البرامج اوقات ومساحات ومواد اعلامية لتفريغ الاحتقان الذي اخذ يتراكم مع غياب حاجات الانسان الاساسية في المجتمع .
إنَّ برامج الكلام السياسية في الغالب تأتي ضمن سياق تصنعهُ الوسيلة الاعلامية ومؤسسها وممولها لنقد المؤسسات الحكومية والواقع السياسي ضمن أطر محددة لا يمكن تجاوزها ، وأشعار المواطن بالحرص عليهِ والتناغم مع رغباتهِ المتنوعة ، ولكن ليس بالضرورة تطبيقها وتلبيتها في حين يطبق الساسة ، شعار ( دعهم يقولون ما يشاؤون ونحن نفعل ما نشاء ) مما أدى الى شعور المواطن بالاحباط و القنوط إزاء الاصلاح الواجب تطبيقهِ . وغدت بعض البرامج تفقد مسؤوليتها الوطنية والثقافية كرسالة مهمة من رسائل التاثير والتغيير والبناء للمجتمع والدولة وصناعة الوعي لدى الإنسان الذي طالما قدم التضحيات الجسام .. حتى تزينت شوارعنا بصور الشهداء الصبية والشباب وتوشحت
اركان الازقة ومداخل الاسواق بيافطات التعزية .. واضحى العلم العراقي شهيداً من فرط ما تلفع بهِ الشهداء .
ونرى خلال الشهور المنصرمة وتحديداً منذُ بدء التظاهرات في نهاية شهر تموز من العام الماضي ان الكثير من البرامج التي تعرض لم ترتقِ الى مستوى وظيفتها المعرفية ، بل تستغل المتناقضات المذهبية والقومية والعرقية وتعمل على تسويقها سياسياً وحزبياً ، متجردة من مسؤوليتها من خلال اللقاء مع إشخاص يتماهون مع خطاب القناة السياسي الذي غالباً ما يلتقي مع جمهور معين وليس التعبير عن معضلات وهموم عموم المواطنين والتدخلات التي تسعى للتأثير على بنية المجتمع والدولة .
إن هذه البرامج غدت تشكل علامة للقنوات التلفازية الاخبارية والعامة من قبل الذين يتعرضون لها وانتقائها لما لها من دور في التفسير والتحليل للأحداث والازمات التي يكتنزُ بها الواقع العراقي ، إذ يعد التنوع الاعلامي من مميزات شكل النظام السياسي بالتعبير عن حرية الرأي ازاء القضايا التي تحصل بين الحين والاخر . وتالياً فإن للاراء بمختلف اشكالها وتعددها اثراً على المتلقين الذين غالباً ما يختلفون في المستوى المعرفي مع تراجع الحصانة والمانعة الثقافية ازاء الاختلاف الكبير بين الاراء والاتجاهات المطروحة ، مما يخلق فجوة واسعة بين ابناء البلد ، بل بين جمهور المنطقة الواحدة ، وهذا الامر يؤدي الى التمزق والتشرذم وعدم تحقيق الهدف لبناء الانسان .
والضرورة تقتضي الالتزام بالمسؤولية المهنية والاخلاقية للعاملين في القنوات التي تقدم البرامج الحوارية كي تغدوا وسيلة من وسائل البناء في وطن يكاد ان تمزقه التدخلات الاقليمية والدولية ، والاختلافات المذهبية والقومية والفساد المالي والتمسك بالروابط القبلية والحزبية . وذلك يتطلب الوعي بخطورتها والتي اضحت وسائل الاعلام ببرامجها الحوارية احد اهم المنابر لمعالجتها من خلال الاختيار الصائب للاشخاص من المختصين والمحللين الذين يطرحون ارائهم بتوازن وموضوعية كي تسهم في لجم الصراعات والخلافات السائدة ، وتصبح وسائل الاعلام احد الادوات الفاعلة في عملية التغيير بل الذراع الاهم لتأسيس الديمقراطية وبناء الانسان والافادة من هذا التنوع الذي يفضي الى الابداع والجمال .