رغم إني ليس من المولعين في متابعة الكثير من البرامج التي تهتم بالغناء ، أكان ذلك على صعيد اكتشاف المواهب ، أو على الصعيد الأخر تقديم المواهب ، ربما يأتي ذلك ليس ترفعا بقدر انشغالي واهتمامي بجوانب أخرى ترضي رغباتي في مجالات الموسيقى أو المسرح أو السينما التي أجدها في أحيان كثيرة بأنها أكثر أغناء لتجربتي في الكتابة والبحث عن منافع ثقافية وأدبية .
لقد أبديت رأي سابقا سواء عبر التلفزيون أو الصحافة في هذه البرامج ، وكنت من الداعين إلى ضرورة الاعتناء بالمواهب الغنائية العربية بعيدا عن طمع الفضائيات في نفخ جيوبها عبر استدراج عواطف المتلقين في البلدان العربية كافة وخاصة الشباب منهم واستنزاف مصروفهم اليومي في التصويت الأسبوعي بعد أن تتحايل هذه الفضائيات بأساليب مغرية في الجذب والشد .
ولكي لا اذهب بعيدا في هذا الموضوع أو في هذا الاعتراض ، كنت قبل أيام في حوار صاخب مع احد المهتمين بهذه البرامج وممن ينتسبون لفضائية تتبنى هذه المسابقات والتي تأتي بالنجوم الكبار لكي يكونوا أداة استقطاب للهواة والمراهقين وشهودا على هذا الطمع بل نهب الجيوب وقد يصل الرقم إلى ملايين الدولارات ، فيأخذ هذا الفنان أو غيره حصته من هذه الأموال دون الاعتبار إلى سمعته وتاريخه ومنجزه .
كنت أعرف سابقا فنانا كبيرا بل نجم وقمة من قمم الغناء العربي رفض عرض من إحدى الفضائيات وبرقم محترم يسيل له لعاب العديد من الفنانين بوزن نجوميته ، بان يكون ضيف يغني في بعض حلقات البرنامج ، رفض النجم الكبير كان يستند على انه لا يرغب أن يكون وسيلة لغاية يرتضي فيها لنفسه بان يكون صندوق
( حصالة ) لجباية أموال محبيه وجمهوره ، يريد أن يبقى سجله ناصعا في تاريخ الطرب العربي ، لكني بعد سنوات وحينما شعر بان نجوميته قد بدأت بالأفول وانصراف الناس عنه وعن أغانيه المكررة تارة ، وتدهور مبيعات أشرطته ،أسرع وطرق أبواب هذه البرامج بحجة إنها ستأتي بجيل من المطربين الشباب الذين يجب أن يأخذوا دورهم كمطربين لكي تتداخل الأجيال من خلال التدريب والصقل ، وكأنه مصلح غنائي في الوقت نفسه فانه أدار ظهره لمحبة الناس.
هذا مثال وربما نجد ابعد من ذلك في هذه البرامج ، ومع احترامي الشديد لنجوم الطرب العربي ممن بدوا يتدافعون للمشاركة في هذه البرامج وغيرها، ليس في الرغبة في زيادة رصيدهم الجماهيري ، بل في زيادة رصيدهم البنكي ، فأنهم باتوا أدوات استهلاك أسبوعي للمشاهد فمهما كانت عدالتهم في تحقيق مبدأ الاختيار بين هذا المتسابق أو ذاك ، النتيجة انه فقد جماهيريته ومحبته من جمهور الطرف الخاسر ، وبالتالي فان توالي الأسابيع ستسقط المحبة رويدا رويدا ، هذا جانب ، الجانب الأخر أنا لأعتقد أن جميع نجوم الطرب قادرين على التميز والاختيار ، فالعديد منهم ربما لم يدرس أو يحترف الغناء والموسيقى أكاديميا ، وهذا خلل واضح في عملية الانتقاء لأنها ستخضع للأهواء والأمزجة ، وهو ما يحدث في برامج هي نسخ مكررة من برامج عالمية ، ثم لماذا لا تعتمد هذه البرامج على خبرات أساتذة الموسيقى والغناء في المعاهد العربية الراقية وهي منتشرة في كل إرجاء الوطن العربي ، هل لكونهم بعدين عن الأضواء والنجومية ، مع أنهم هم من صنعوا هؤلاء النجوم الذين يتقافزون أمامنا عبر الشاشات .
قد أضع مثالا إلا ما ذهبت إليه ، اعرف الفنان العراقي عارف توفيق انه من الأصوات النادرة في الغناء موهبة رائعة فوق ما تتصور ، كنت استمع له منذ أن كان يغني مع الفرقة العراقية للفنون الشعبية ، ثم مع فرقة الإنشاد العراقية ، وفرقة المقام العراقي موهبة وصوت فريد ، خبرته الفنية ولاسيما على صعيد التلحين، رخامة صوته وتمرسه على الغناء، ومعرفته بفنون النغم والمقامات، تجعل كل ذلك منه موهبة غير عادية، مثيرة للإعجاب والتقدير، وهي اليوم ( للأسف ) تبحث لنفسها عن موضع قدم في الوسط الغنائي، رغم أن عمره تعدى مرحلة يعتقد من يبلغها أن المستقبل أصبح وراءه، بالمقابل فان تفوق موهبته سوف تجعل من النجوم في موقف محرج ، فهل ينتظر عامر تقيم ممن هم اقل منه قدرة ؟ أم ينتظر رحمة المصوتين ؟ وبالتالي الذي ننشده مما نقول نضعه في المثل القائل: الضمير صوت هادئ يخبرك بأن أحدا ينظر إليك.